فعلها هتلر عندما وصف اليهود الألمان بالفيروسات والطفيليات والجرذان. وفي رواندا، فعل متطرفو الهوتو الأمرَ نفسه مع قبائل التوتسي، ونعتوهم بالصراصير قبل أن يقتلوا نصف مليون منهم في الإبادة الجماعية الدامية عام ١٩٩٤. لطالما اعتُبِر الحطُّ من إنسانية الآخَر نذيرَ شؤمٍ يسبق ارتكاب أعمال عنف متطرفة، لكنه شائع على نحو ينذر بالخطر، بقدرٍ لا يخفى على أيِّ متابِع للأخبار. لنضرب مثالين حديثين شهيرين: شبه أحد الساسة أولَ وزيرة سوداء في الحكومة الإيطالية — واسمها سيسيل كيينجي — بإنسان الغاب، وفي فرنسا، شبَّهت مرشحةٌ عن حزب الجبهة الوطنية وزيرةَ العدل السوداء كريستيان توبيرا بالقرد.
نزع الإنسانية عن الإنسان.
إن تجريد شخص من صفته الإنسانية يُصنَّف من بين الإهانات الأكثر إذلالًا التي يمكن أن يوجِّهها شخص لآخَر، وقد يرى معظمنا أنفسهم غير قادرين على الإتيان بمثل هذا السلوك، غير أنه خلال العقد الماضي توصَّلَ علماء النفس إلى إدراك أن النزعة إلى اعتبار الآخَرين أدنى مرتبةً إنسانيةً عنَّا أمرٌ شائع على مستوى العالم. إن هذا النمط من التحيُّز لا ينطبق فحسب على السياقات العرقية؛ فقد يتسع ليشمل أيَّ شخص نُخفق في التواصُل معه أو قبوله، بدءًا من أفراد الجنس الآخَر وذوي الإعاقات إلى الأقليات الاجتماعية والجنسية والدينية. يقول يورون فايس من جامعة بادوا بإيطاليا: «يبدو الأمر كما لو أن لدينا معيارًا صغيرًا للإنسانية في عقولنا ينشط حينما نرى شخصًا آخَر.»
إن إدراك أن الحطَّ من إنسانية الآخَر أمرٌ من طباع البشر لا يجعله مقبولًا على أية حال بالطبع، لكنَّ فَهْم السبب وراء هذا الفعل هو الخطوة الأولى، من بين الكثير من الخطوات، نحو تدارُك هذا السلوك. بَيْدَ أن الأبحاث الحديثة تقدِّم بالفعل بصيصًا من الأمل؛ إذ تشير إلى أنه مع سهولة تحفيز مثل هذا التحيُّز، فإنه قد يكون من السهل أيضًا تقويضه وتحجيمه.
ماذا نعرف إذن؟ بادئ ذي بَدء، بعض الأشخاص أكثر عرضةً للإتيان بهذا السلوك الازدرائي من غيرهم، وعلى وجه الخصوص مَن يملكون سمات نرجسية، كذلك الأشخاص الذين لديهم حسٌّ قويٌّ بمكانتهم الخاصة الرفيعة في التسلسُل الهرمي الاجتماعي أو المهني. ومن المثير للاهتمام أن الأطباء الذين يميلون إلى الحطِّ من إنسانية مرضاهم ربما يحقِّقون نتائج طبية أفضل؛ لأنهم على الأرجح يصفون لهم دواءً مؤلمًا لكنه أكثر فاعليةً. وعلى الرغم من أن أغلب أمثلة الحطِّ من إنسانية الآخَر ليست صارخة كما في الهجوم على كيينجي وتوبيرا، فحتى التحيُّزات في اللاوعي يمكن أن تؤثِّر على آرائنا في الآخَرين وتصرُّفاتنا تجاههم. تكشف التجارب أنه حين نحطُّ من إنسانية شخص ما، فإننا نسلبه سمات على غرار قدرته على أن يكون عاقلًا أو مفكِّرًا، وأغلب الظن أننا سنتغاضى عن عنف قوات الأمن في حقه، ومن غير المحتمل إلى حدٍّ ما أن نساعده أو نصفح عنه، وعلى الأرجح سنتنمَّر عليه.
إن السبب وراء حطِّنا من إنسانية الآخَر ليس واضحًا، لكن يبدو أنه متأصِّل في نزعتنا إلى الحكم على أفراد الجماعات الاجتماعية التي ننتمي إليها بأنهم أعلى مرتبةً إنسانيةً من أفراد الجماعات الأخرى. يشير فايس — الذي شارَكَ في تحرير كتاب سيصدر قريبًا حول هذا الموضوع — إلى أن هذا الأمر يتجلى في الأسماء التي تطلقها بعضُ الجماعات العرقية على أنفسها. على سبيل المثال، أطلق الغجر في أوروبا الشرقية على أنفسهم لفظة «الروم»، وتعني «الإنسان»، ونفس المعنى أيضًا يحمله لقب «آينو» في لغة شعب الآينو بشمال اليابان. ويُعَدُّ الانتماء العرقي واحدًا من بين السُّبُل العديدة التي نصنِّف أنفسَنا بها اجتماعيًّا، فكلُّ واحد منَّا يُعَدُّ فردًا في مجموعات متنوِّعة من الجماعات، كبيرة وصغيرة، ترتكز إلى كل شيء بدءًا من الديانة والسياسة والجنس إلى العمل والرياضة والصداقة. في حقيقة الأمر، إن النزعة الإنسانية إلى تقسيم العالم إلى فئتين «نحن» و«هم»، ثم التمييز ضد من لا ينتمون إلى فئتنا؛ نزعة قوية للغاية لدرجة أنها لا تحتاج إلى أي تحفيز (انظر الجزء بعنوان «انتماءات اعتباطية»).
تكشف تجربة بالصور — ستنشر عمَّا قريب — عن أننا نرتئي فعليًّا إنسانيةً أقل في وجوهِ مَن هم خارجَ الجماعة التي ننتمي إليها. استعرض جاي فان بافل وفريقه بجامعة نيويورك أمام بعض الأشخاص صورًا من سلسلة مكوَّنة بواسطة الكمبيوتر حُوِّل فيه وجه دمية باربي تدريجيًّا إلى وجهٍ بشري؛ فلوحظ أنه إذا تحدد الوجه على أنه وجه أحد أفراد جماعتهم — زميل لهم بالجامعة، كما أُخبروا — فإنهم يرونه آدميًّا على نحو أسرع من وجه آخَر ظنوا أنه لشخصٍ ما من جامعة أخرى. وفي نفس الوقت، أظهَرَ مسحٌ دماغي أُجرِي لهم زيادةً متزامنة في نشاط شبكة «نظرية العقل» بالمخ، وهي المعنيَّة بالتفكير فيما يدور بعقول الآخَرين (دورية جورنال أوف إكسبريمنتال سوشال سايكولوجي، تحت الطبع).
يقول فان بافل: «إن الحكم على القدرات العقلية للآخَرين هو جوهر الإدراك الاجتماعي الإنساني. يشير بحثنا إلى أن الانتماء إلى جماعة — مَن معنا ومَن ضدنا — يلعب دورًا حاسمًا في تشكيل الطريقة التي ننظر بها إلى الحالات الذهنية لمَن حولنا.» يخلص فان بافل إلى أن لهويتنا الاجتماعية بالغَ الأثر في تشكيل الطريقة التي نقيِّم بها الآخَرين، بما في ذلك مقدار ما نضفيه عليهم من إنسانية. يعتقد فان بافل أن هذه التقييمات تتشكَّل سريعًا، ربما حتى في غضون نصف الثانية الأول من رؤية شخصٍ ما.
إن القَدْر الضئيل من التحفيز الذي احتاجه متطوِّعو فان بافل لتنشيط نزعة الحطِّ من إنسانية الآخَر لديهم هو شيء يدعو للصدمة، لكنَّ ثمة وجهًا آخَر لهذا الأمر. في تجربة أخرى، وضع فريقه متطوعين بمجموعات صغيرة تحدَّدت عشوائيًّا من جميع النواحي فيما عدا ناحية واحدة؛ إذ ضمَّت كل المجموعات أشخاصًا من ذوي البشرة البيضاء والسوداء. لم يصنِّف المشاركون أفرادَ مجموعتهم الخاصة على نحوٍ إيجابي أكثر مما فعلوه مع الغرباء فحسب — بصرف النظر عن لون بشرتهم — بل ارتفع أيضًا احتمالُ تذكُّرهم لوجوه أفراد المجموعة على الرغم من رؤيتهم لهم لبضع ثوانٍ فقط (دورية بيرسوناليتي آند سوشال سايكولوجي بوليتن، المجلد ٣٨، صفحة ١٥٦٦). هذا أمر يدعو للدهشة، في ضوء حقيقة أن الناس عادةً لا يتذكَّرون جيدًا وجوهَ الآخَرين الذين لا ينتمون إلى الخلفية العرقية نفسها، وهي ظاهرة يُعتقَد أنها تفسِّر المعدلات العالية لخطأ المجني عليه في التعرُّف على الجناة المنتمين إلى أعراق مختلفة عند اصطفافهم أمامه في طابور العرض. يقول فان بافل: «وهذه الظاهرة تتلاشى في اللحظة التي يصبح فيها هؤلاء الأشخاص جزءًا من مجموعة معًا.»
تحجيم التحيُّز
إن حقيقة أن اندماجنا مع أية مجموعة يحدث دون عناءٍ هي بشرى سارة لأيِّ شخص يأمل في تقليص التحيُّز لديه؛ حيث إنه إذا كانت المجموعات الاجتماعية مؤقتة، فكذلك تكون نزعتنا إلى الحطِّ من إنسانية الآخَر. في حقيقة الأمر توصَّلَ فان بافل وزملاؤه الآن إلى أن إطْلاع الناس ببساطة على أنهم وُضِعوا عن غير قصدٍ في المجموعة الخطأ يقودهم إلى الرجوع عن تحيُّزاتهم. وَجد فان بافل وزملاؤه وغيرهم أن تعزيزَ التفاعُل بين المجموعات يسهم في تقليص ميول الحطِّ من إنسانية الآخَر أيضًا، وكذلك الإشارة إلى أن أفراد المجموعات المختلفة ربما ينتمون إلى المجموعة الرئيسية نفسها — على سبيل المثال، يُنشد الأمريكيون من أصل أيرلندي والأمريكيون من أصل أفريقي النشيدَ الوطني نفسه. يقول فان بافل: «يمكنك التخلُّص من أنماط عديدة من التحيُّز العرقي على نحوٍ سريعٍ للغاية، ما دمت ترسخ لدى الناس شعورَ أنهم يتقاسمون شيئًا من قبيل هوية الجماعة.»
مع ذلك، وكما توضِّح الأبحاث التي نُشِرت في العام الماضي، ثمة خطر يكمن في أنه عند التأكيد على جماعات جديدة، فربما تبرز بذلك أيضًا حدود اجتماعية جديدة. ذكر آدم وايتز بجامعة نورث ويسترن بمدينة إيفانستون بولاية إلينوي، ونيكولاس إيبلي بجامعة شيكاغو أن حثَّ الناس على التفكير في شبكتهم الاجتماعية الأوسع نطاقًا زاد من ميلهم إلى الحطِّ من إنسانية مَن هم خارج هذه الشبكة؛ مما جعلهم أقل ميلًا إلى وصفهم بحالات نفسية إنسانية، وأكثر ميلًا إلى الحث على أن يتلقَّوا عقابًا قاسيًا لقاء أي إساءةٍ مهما صَغُرت (دورية جورنال أوف إكسبريمنتال سوشال سايكولوجي، المجلد ٤٨، صفحة ٧٠). يرى وايتز أن نمو وسائل الاتصال الاجتماعية ربما يعزِّز هذا الأثر بغير قصد. ومع أنه لا يوجد أي دليل على حدوث هذا بعدُ، يشير وايتز إلى أن نشر تعليقات ترهيبية أو بذيئة من مجهولٍ على صفحات فيسبوك لمَن لا يعرفهم قد يكون الشرارة الأولى.
لكنَّ ثمة أمرًا آخر غير متوقَّع؛ فمن باب المفارقة أن المشاركة في مثل هذا النبذ الاجتماعي تخلف لدينا شعورًا بأننا أنفسنا نفتقد إلى الإنسانية. طلبتْ مجموعةُ بروك باستيان بجامعة كوينزلاند بسانت لوشا بأستراليا، من طلاب الجامعة التفكيرَ في إحدى المرات التي رفضوا فيها شخصًا ما رفضًا اجتماعيًّا، ثم طلبت منهم تقييم سلوكهم من الناحية الأخلاقية، وتقييم أنفسهم وفقًا لقائمةٍ من السمات تضمَّنَتْ سعة الأفق والعقلانية وضبط النفس؛ فكانت النتيجة أنْ منح الطلاب أنفسهم مرتبة أقل في معيار الإنسانية إذ شعروا أنهم تصرَّفوا على نحو غير أخلاقي تجاه شخص آخَر. كذلك زاد احتمال مشاركتهم الاجتماعية على نحوٍ لائق بعد ذلك من خلال التطوُّع للمشاركة في دراسة علمية أخرى (دورية بيرسوناليتي آند سوشال سايكولوجي بوليتن، المجلد ٣٩، صفحة ١٥٦).
يرى فايس أن الناس يتحفزون لاستعادة إنسانيتهم التي فقدوها أثناء تصرُّفهم على نحوٍ غير أخلاقي، وهذا هو ما يفعلونه حقيقةً عندما يشاركون في لجان الحقيقة والمصالحة، على حدِّ قوله، وهذا يفسِّر سببَ نجاح هذه العملية في جنوب أفريقيا وبلدان أخرى. يقول: «تتمثَّل هذه الفكرة في جعل مقترفي الإثم يسردون أفعالهم؛ وبذا يدركون مدى افتقاد هذه التصرُّفات إلى النزعة الأخلاقية.»
لا ندعو هنا إلى تأسيس لجنة للحقيقة والمصالحة في كل مرة ينعت فيها شخصٌ ما سياسيًّا بالحيوان، لكن يمكن للمجتمعات أن تعمل على إزالة الحدود الفاصلة بين المجموعات المتعارضة عن طريق التركيز على التطلُّعات المشتركة، ومبادئ وإنسانية أفرادها. وإذا كانت نزعتنا إلى احتقار الغرباء تقابِلها نزعةٌ نحوَ التكفير عن هذا السلوك، فلا يزال هناك بارقة أمل أمام الجنس البشري.
انتماءات اعتباطية
لدى البشر احتياج راسخ للغاية للشعور بأنهم ينتمون إلى جماعة، وما يستتبع ذلك من عواقب إيجابية وسلبية على حدٍّ سواء. ماذا يستلزم الأمرُ كي نجعل المرءَ يشعر بأنه «فرد من جماعتنا»؟ بعبارة أخرى، إلى أي مدًى يمكن أن تكون الجماعة صغيرة واعتباطية وفي الوقت نفسه تولِّد لدينا شعورًا بالانتماء إليها دون غيرها؟
وُضِع «نموذج للحدِّ الأدنى للجماعة» في سبعينيات القرن الماضي كسبيل لاسكتشاف هذا الأمر، فوجَدَ عالم النفس الاجتماعي البريطاني هنري تاجفيل وزملاؤه أن إجراءَ قرعة بعملة نقدية، أو إخبارَ الأشخاص ببساطة أنهم انضموا إلى أحد الفريقين بعد إجراء قرعة بعملة معدنية كافٍ لتوليد حسٍّ بالأفضلية داخلهم تجاه أفراد فريقهم.
توصَّلَ جاي فان بافل بجامعة نيويورك إلى النتيجة نفسها مرات متكررة. بصورة نموذجية، لم يلتقِ المشاركون في تجاربه بالأفراد الآخَرين المنتمين لمجموعتهم ولم يعرفوا عنهم شيئًا، وكذلك لم تنطوِ تجاربه على تنافُس أو تسابُق أو مكافأة أو عقاب، ولم يَقُمْ فيها إلا بإبلاغ المشاركين بالمجموعة التي سينضمون إليها، ثم عرَضَ عليهم صورًا للأفراد الآخَرين بالمجموعة لمدة ثانيتين أو ثلاث أو أربع ثوانٍ لكل فرد. يقول فان بافل: «هذا وقت كافٍ لتوليد التحيز لأفراد المجموعة.» كذلك، مثلما اكتشف فان بافل أيضًا، هذا كل ما يتطلبه الأمر منَّا أحيانًا كي نسلب من لا ينتمون لمجموعتنا إنسانيتهم.