[ ص: 224 ] إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم
هذه الجملة بيان لجملة ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض بيانا بالمثال وهو سبب النزول .
فهذا شروع في الغرض والذي نشأ عنه ما أوجب نزول صدر السورة فافتتح به ؛ لأن التحذير والوعد اللذين جعلا لأجله صالحان لأن يكونا مقدمة للمقصود فحصل بذلك نسج بديع وإيجاز جليل وإن خالف ترتيب ذكره ترتيب حصوله في الخارج ، وقد صادف هذا الترتيب المحز أيضا إذ كان نداؤهم من وراء الحجرات من قبيل الجهر للرسول صلى الله عليه وسلم بالقول كجهر بعضهم لبعض فكان النهي عن الجهر له بالقول تخلصا لذكر ندائه من وراء الحجرات .
والمراد بالذين ينادون النبيء صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات جماعة من وفد بني تميم جاءوا المدينة في سنة تسع وهي سنة الوفود وكانوا سبعين رجلا أو أكثر .
وكان سبب وفود هذا الوفد إلى النبيء صلى الله عليه وسلم أن بني العنبر منهم كانوا قد شهروا السلاح على خزاعة ، وقيل كانوا منعوا إخوانهم بني كعب بن العنبر بن عمرو بن تميم من إعطاء الزكاة ، وكان بنو كعب قد أسلموا من قبل ، ولم أقف على وقت إسلامهم . والظاهر أنهم أسلموا في سنة الوفود فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر بن سفيان ساعيا لقبض صدقات بني كعب ، فمنعهم بنو العنبر فبعث النبيء صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن في خمسين من العرب ليس فيهم أنصاري ولا مهاجري فأسر منهم أحد عشر رجلا وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا . فجاء في أثرهم جماعة من رؤسائهم لفدائهم فجاءوا المدينة .
وكان خطيبهم عطارد بن حاجب بن زرارة ، وفيهم سادتهم الزبرقان بن بدر ، وعمرو بن الأهتم ، والأقرع بن حابس ، ومعهم عيينة بن حصن الفزاري الغطفاني وكان هذان الأخيران أسلما من قبل وشهدا مع النبيء صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح ، ثم جاء معهم الوفد فلما دخل الوفد المسجد وكان وقت القائلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم في [ ص: 225 ] حجرته ، نادوا جميعا وراء الحجرات : ( يا محمد اخرج إلينا ثلاثا ، فإن مدحنا زين ، وإن ذمنا شين ، نحن أكرم العرب ) سلكوا في عملهم هذا مسلك وفود العرب على الملوك والسادة ، كانوا يأتون بيت الملك أو السيد فيطيفون به ينادون ليؤذن لهم كما ورد في قصة ورود النابغة على النعمان بن الحارث الغساني .
وقولهم : إن مدحنا زين ، طريقة كانوا يستدرون بها العظماء للعطاء فإضافة : مدحنا وذمنا إلى الضمير من إضافة المصدر إلى فاعله . فلما خرج إليهم رسول الله قالوا : جئناك نفاخرك فائذن لشاعرنا وخطيبنا إلى آخر القصة .
وقولهم : نفاخرك ، جروا فيه على عادة الوفود من العرب أن يذكروا مفاخرهم وأيامهم ، ويذكر الموفود عليهم مفاخرهم ، وذلك معنى صيغة المفاعلة في قولهم : نفاخرك ، وكان جمهورهم لم يزالوا كفارا حينئذ وإنما أسلموا بعد أن تفاخروا وتناشدوا الأشعار .
فالمراد بـ الذين ينادونك رجال هذا الوفد . وإسناد فعل النداء إلى ضمير الذين لأن جميعهم نادوه ، كما قال ابن عطية . ووقع في حديث البراء بن عازب أن الذي نادى النداء هو الأقرع بن حابس ، وعليه فإسناد فعل " ينادونك " إلى ضمير الجماعة مجاز عقلي عن نسبة فعل المتبوع إلى أتباعه إذ كان الأقرع بن حابس مقدم الوفد ، كما يقال : بنو فلان قتلوا فلانا ، وإنما قتله واحد منهم ، قال تعالى : وإذ قتلتم نفسا .
ونفي العقل عنهم مراد به عقل التأدب الواجب في معاملة النبيء صلى الله عليه وسلم أو عقل التأدب المفعول عنه في عادتهم التي اعتادوها في الجاهلية من الجفاء والغلظة والعنجهية ، وليس فيها تحريم ولا ترتب ذنب .
وإنما قال الله تعالى : أكثرهم لا يعقلون لأن منهم من لم يناد النبيء صلى الله عليه وسلم مثل ندائهم ، ولعل المقصود استثناء اللذين كانا أسلما من قبل .
فهذه الآية تأديب لهم وإخراج لهم من مذام أهل الجاهلية .
والوراء : الخلف ، وهو جهة اعتبارية بحسب موقع ما يضاف إليه .
[ ص: 226 ] والمعنى : أن الحجرات حاجزة بينهم وبين النبيء صلى الله عليه وسلم فهم لا يرونه فعبر عن جهة من لا يرى بأنها وراء .
و ( من ) للابتداء ، أي ينادونك نداء صادرا من وراء الحجرات فالمنادون بالنسبة إلى النبيء صلى الله عليه وسلم كانوا وراء حجراته فالذي يقول : ناداني فلان وراء الدار ، لا يريد وراء مفتح الدار ولا وراء ظهرها ولكن أي جهة منها وكان القوم المنادون في المسجد فهم تجاه الحجرات النبوية ، ولو قال : ناداني فلان وراء الدار ، دون حرف ( من ) ، لكان محتملا لأن يكون المنادي والمنادى كلاهما في جهة وراء الدار ، وأن المجرور ظرف مستقر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول ولهذا أوثر جلب ( من ) ليدل بالصراحة على أن المنادى كان داخل الحجرات لأن دلالة ( من ) على الابتداء تستلزم اختلافا بين المبدأ والمنتهى كذا أشار في الكشاف ، ولا شك أنه يعني أن اجتلاب حرف ( من ) لدفع اللبس فلا ينافي أنه لم يثبت هذا الفرق في قوله تعالى : ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم في سورة الأعراف وقوله : ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض في سورة الروم . وفيما ذكرنا ما يدفع الاعتراضات على صاحب الكشاف .
فلفظ وراء هنا مجاز في الجهة المحجوبة عن الرؤية .
والحجرات ، بضمتين ويجوز فتح الجيم : جمع حجرة بضم الحاء وسكون الجيم وهي البقعة المحجورة ، أي التي منعت من أن يستعملها غير حاجرها فهي فعلة بمعنى مفعولة كغرفة ، وقبضة . وفي الحديث : " أيقظوا صواحب الحجر " يعني أزواجه ، وكانت الحجرات تفتح إلى المسجد .
وقرأ الجمهور " الحجرات " بضمتين . وقرأه أبو جعفر بضم الحاء وفتح الجيم .
وكانت الحجرات تسعا وهي من جريد النخل ، أي الحواجز التي بين كل واحدة والأخرى ، وعلى أبوابها مسوح من شعر أسود وعرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت نحو سبعة أذرع ، ومساحة البيت الداخل ، أي الذي في داخل الحجرة عشرة أذرع ، أي فتصير مساحة الحجرة مع البيت سبعة عشر [ ص: 227 ] ذراعا . قال الحسن البصري : كنت أدخل بيوت أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان بن عفان فأتناول سقفها بيدي .
وإنما ذكر الحجرات دون البيوت لأن البيت كان بيتا واحدا مقسما إلى حجرات تسع .
وتعريف الحجرات باللام تعريف العهد ، لأن قوله ينادونك مؤذن بأن الحجرات حجراته فلذلك لم تعرف بالإضافة .
وهذا النداء وقع قبل نزول الآية فالتعبير بصيغة المضارع في ينادونك لاستحضار حالة ندائهم .
ومعنى قوله : ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم أنه يكسبهم وقارا بين أهل المدينة ويستدعي لهم الإقبال من الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يخرج إليهم غير كاره لندائهم إياه ، ورفع أصواتهم في مسجده فكان فيما فعلوه جلافة .
فقوله " خيرا " يجوز أن يكون اسم تفضيل ، ويكون في المعنى : لكان صبرهم أفضل من العجلة . ويجوز أن يكون اسما ضد الشر ، أي لكان صبرهم خيرا لما فيه من محاسن الخلق بخلاف ما فعلوه فليس فيه خير ، وعلى الوجهين فالآية تأديب لهم وتعليمهم محاسن الأخلاق وإزالة العوائد الجاهلية الذميمة .
وإيثار ( حتى ) في قوله : حتى تخرج إليهم دون ( إلى ) لأجل الإيجاز بحذف حرف ( أن ) فإنه ملتزم حذفه بعد ( حتى ) بخلافه بعد ( إلى ) فلا يجوز حذفه .
وفي تعقيب هذا اللوم بقوله : والله غفور رحيم إشارة إلى أنه تعالى لم يحص عليهم ذنبا فيما فعلوا ولا عرض لهم بتوبة .
والمعنى : والله شأنه التجاوز عن مثل ذلك رحمة بالناس لأن القوم كانوا جاهلين .