وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون
" أصبح " هنا بمعنى صار .
و " الأمس " مستعمل في مطلق زمن مضى قريبا على طريقة المجاز المرسل ، و " مكان " مستعمل مجازا في الحالة المستقر فيها صاحبها ، وقد يعبر عن الحالة أيضا بالمنزلة .
ومعنى يقولون أنهم يجهرون بذلك ندامة على ما تمنوه ورجوعا إلى التفويض لحكمة الله فيما يختاره لمن يشاء من عباده . وحكي مضمون مقالاتهم بقوله تعالى : ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء الآية .
[ ص: 187 ] وكلمة " ويكأن " عند الأخفش وقطرب مركبة من ثلاثة كلمات : " وي " ، وكاف الخطاب ، و " أن " . فأما " وي " فهي اسم فعل بمعنى : أعجب ، وأما الكاف فهي لتوجيه الخطاب تنبيها عليه مثل الكاف اللاحقة لأسماء الإشارة ، وأما " أن " فهي " أن " المفتوحة الهمزة أخت " إن " المكسورة الهمزة ، فما بعدها في تأويل مصدر هو المتعجب منه ، فيقدر لها حرف جر ملتزم حذفه لكثرة استعماله ، وكان حذفه مع " أن " جائزا ، فصار في هذا التركيب واجبا ، وهذا الحرف هو اللام أو " من " فالتقدير : أعجب يا هذا من بسط الله الرزق لمن يشاء .
وكل كلمة من هذه الكلمات الثلاث تستعمل بدون الأخرى ، فيقال : " وي " بمعنى أعجب ، ويقال " ويك " بمعناه أيضا ، قال عنترة :
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
ويقال : ويكأن ، كما في هذه الآية ، وقول سعيد بن زيد أو نبيه بن الحجاج السهمي :
ويكأن من يكن له نشب يحـ بب ومن يفتقر يعش عيش ضر
فخفف " أن " وكتبوها متصلة ؛ لأنها جرت على الألسن كذلك في كثير الكلام ، فلم يتحققوا أصل تركيبها ، وكان القياس أن تكتب - ويك - مفصولة عن - أن - وقد وجدوها مكتوبة مفصولة في بيت سعيد بن زيد . وذهب الخليل ويونس وسيبويه والجوهري والزمخشري إلى أنها مركبة من كلمتين " وي " و " كأن " التي للتشبيه .
والمعنى : التعجب من الأمر وأنه يشبه أن يكون كذا ، والتشبيه مستعمل في الظن واليقين . والمعنى : أما تعجب كأن الله يبسط الرزق .
وذهب أبو عمرو بن العلاء ، والكسائي ، والليث ، وثعلب ، ونسبه في " الكشاف " إلى الكوفيين ، ( وأبو عمرو بصري ) أنها مركبة من أربع كلمات ؛ كلمة " ويل " ، وكاف الخطاب ، وفعل " اعلم " ، و " أن " ، وأصله : ويلك اعلم أنه كذا ، فحذف لام الويل وحذف فعل " اعلم " ، فصار ويكأنه . وكتابتها متصلة على هذا الوجه متعينة ؛ لأنها صارت رمزا لمجموع كلماته فكانت مثل النحت .
[ ص: 188 ] ولاختلاف هذه التقادير اختلفوا في الوقف ؛ فالجمهور يقفون على " ويكأنه " بتمامه ، والبعض يقف على " وي " والبعض يقف على " ويك " .
ومعنى الآية على الأقوال كلها أن الذين كانوا يتمنون منزلة قارون ندموا على تمنيهم لما رأوا سوء عاقبته وامتلكهم العجب من تلك القصة ومن خفي تصرفات الله تعالى في خلقه ، وعلموا وجوب الرضى بما قدر للناس من الرزق ، فخاطب بعضهم بعضا بذلك وأعلنوه .
والبسط : مستعمل مجازا في السعة والكثرة .
" ويقدر " مضارع " قدر " المتعدي ، وهو بمعنى : أعدى بمقدار ، وهو مجاز في القلة ؛ لأن التقدير يستلزم قلة المقدر لعسر تقدير الشيء الكثير ، قال تعالى : ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها .
وفائدة البيان بقوله : " من عباده " الإيماء إلى أنه في بسطة الأرزاق وقدرها متصرف تصرف المالك في ملكه ؛ إذ المبسوط لهم والمقدور عليهم كلهم عبيده ، فحقهم الرضى بما قسم لهم مولاهم .
ومعنى لولا أن من الله علينا لخسف بنا : لولا أن من الله علينا فحفظنا من رزق كرزق قارون لخسف بنا ، أي لكنا طغينا مثل طغيان قارون فخسف بنا كما خسف به ، أو : لولا أن من الله علينا بأن لم نكن من شيعة قارون لخسف بنا كما خسف به وبصاحبيه ، أو : لولا أن من الله علينا بثبات الإيمان .
وقرأ الجمهور " لخسف بنا " على بناء فعل " خسف " للمجهول ؛ للعلم بالفاعل من قولهم : لولا أن من الله علينا . وقرأه يعقوب بفتح الخاء والسين ، أي لخسف الله الأرض بنا .
وجملة ويكأنه لا يفلح الكافرون تكرير للتعجب ، أي قد تبين أن سبب هلاك قارون هو كفره برسول الله .