هنيئاً لمن صابر وصبر وصلى لله وشكر، هنيئاً لمن تلا كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار، وناجاه واستغفره بالأسحار، هنيئاً لمن رجاه ودعاه مستحضراً قوله سبحانه وتعالى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَني
فَإِني قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلهُمْ يَرْشُدُونَ (البقرة 186)، هنيئاً لمن صام أيام رمضان وقام ليله إيماناً واحتساباً، هنيئاً لمن فطر فيه صائماً وأطعم جائعاً أو سائلاً، هنيئاً لمن أحسن إلى يتيم وأدخل الفرحة إلى قلب أسير وأحيا كبد مسكين، هنيئاً لمن أتم فريضته وختم عبادته، هنيئاً لمن تقبله الله في رمضان، ورد في السنة النبوية أن “رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً إلى المنبر فقال حين ارتقى درجة: أمين، ثم ارتقى الأخرى فقال: آمين، ثم ارتقى الثالثة فقال: آمين، فلما نزل عن المنبر وفرغ قيل له يا رسول الله لقد سمعنا منك كلاماً اليوم ما كنا نسمعه قبل اليوم، قال: وسمعتموه؟ قالوا: نعم، قال: إن جبريل عليه السلام عرض لي حين ارتقيت درجة فقال بَعُدَ من أدرك أبويه عند الكبر أو أحدهما لم يدخلاه الجنة، فقلت: آمين، وقال: بَعُدَ من ذكرتَ عنده ولم يصل عليك، فقلت آمين، ثم قال بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يغفر له فقلت آمين” (رواه الطبراني) ها قد عدنا إلى حياتنا كما كانت قبل رمضان، فكيف سيكون حالنا بعد رمضان؟ هل سنواظب على عبادتنا الرمضانية أم على بعضٍ منها؟ أم سنحيل أيامنا صحراء مجدبة وأرضاً قاحلة من العبادة والصلة الوثيقة بالله تعالى؟ وهل سنجعل ليالينا وقلوبنا وأرواحنا مظلمة تفتقر إلى نور الطاعة والعبادة . إن المؤمن الحق لا يكون من عُباد رمضان وحسب، ولا يكون ممن ينشط فيه بالعبادة وطلب الأجر والزيادة، حتى إذا انقضى توقفت أعماله، فالله سبحانه أمرنا بالصلاح الدائم، ووجهنا ألا ننقطع عن العبادة ما حيينا، قال تعالى: وَاعْبُدْ رَبكَ حَتى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (الحجر 99)، فإذا عمل المؤمن حسنة فليتبعها بالحسنات، وحري بمن فعل الحسنات في هذا الشهر الفضيل وتقرب إلى الله بالطاعات أن يواصل الخير وألا ينقطع عنه، وأن يتمسك بما يحبه الله باقي السنة، فإن الحسنات في رمضان تفتقر إلى أخوات لها باقي السنة، وإذا كانت الحسنة بعد السيئة تمحوها، فكيف بالحسنة بعد الحسنة؟ فإن من علامات قبول الطاعة والعبادة في رمضان وصلها والاستمرار عليها بعده . فلنبق متصلين بالله على الدوام حتى نلقى الله وهو راضٍ عنا، ولنتذكر أنه يراقبنا في كل زمان ومكان، وأنه لا يرضى لعبده طاعة يوم ومعصية أيام، ولا يريد منه ختم القرآن مرات ومرات في رمضان ثم هَجْرَهُ مدى العام، ولا يقبل منه التهجد وطول القيام في رمضان ثم الانقطاع عن الفرائض على مدار الزمان، ولا يغفر له صلة الرحم حيناً من الدهر وقطيعتها بقية الأيام، وهل يعقل أن تمتلئ المساجد وتكتظ بالمصلين في رمضان لتصبح خاوية خالية بعده؟ إن المرء بسلوكه هذا لا يختلف كثيراً عمن ترك أداء الصلاة عمره كله بعد أن أداها في المسجد الحرام، مستنداً إلى ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: “صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه” (رواه أحمد)، ولا يختلف كذلك عمن هجر كتاب الله وترك ترتيله بعد أن قرأ سورة الإخلاص ثلاثاً منفذاً ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم عنها: “إنها لتعدل ثلث القرآن” (رواه البخاري) . إن من يبدل حسناته بالسيئات يبطلها ويبطل ما قدم من عمل صالح، فحذار من ترك الطاعة والإنفلات من الأخلاق والانغماس في المحرم من الشهوات بعد رمضان، وحذار من نقض التوبة مع الله، فمن ذاق طعم الإيمان وحلاوة القرآن في رمضان ينبغي ألا يكون ممن قال الله فيهم: وَلا تَكُونُوا كَالتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوةٍ أَنْكَاثاً (النحل92) . المطلوب من المؤمن أن يقبل على الطاعات في كل وقت وحين ، الفرائض والواجبات منها والمندوبات، فإذا كان العمر ساعة وجب إفناؤها بالطاعة، فكيف به وهو ساعات وساعات؟ وأن الله سائله عنها، والمطلوب منه أن يجعل أيامه كلها في رمضان وفي غيره مواسم للطاعة، وأن يقضي عمره في العبادة بمعناها الشامل لكل خير وكل عمل صالح