قالالله تعالى في سورة هود بعد قصة قوم لوط {وَإِلَى مَدْيَنَأَخَاهُمْشُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْإِلَهٍغَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيأَرَاكُمْبِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ {
وقالتعالى في الشعراء بعد قصتهم {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِالْمُرْسَلِينَ،إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّيلَكُمْ رَسُولٌأَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِي، وَمَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِمِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّالْعَالَمِينَ }
نسبه عليه السلام
كانأهل مدين قوماً عرباً يسكنون مدينتهم مدين، التي هي قريبة من أرضمَعَان منأطراف الشام، قريباً من بحيرة قوم لوط. وكانوا بعدهم بمدةقريبة. ومدينمدينة عرفت بالقبيلة وهم من بني مدين بن مديان بن إبراهيمالخليل.
وشعيب نبيهم هو ابن ميكيل بن يشجن ذكره ابن إسحاق.
ويقال: شعيب بن يشخر بن لاوي بن يعقوب.
قال ابن عساكر: ويقال جدته، ويقال أمه بنت لوط.
وكان ممن آمن بإبراهيم وهاجر معه، ودخل معه دمشق.
وفي حديث أبي ذر الذي في صحيح ابن حبان في ذكر الأنبياء والرسل قال : "أربعة من العرب هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر"
وكان بعض السلف يسمي شعيباً خطيب الأنبياء يعني لفصاحته وعلو عبارته وبلاغته في دعاية قومه إلى الإيمان برسالته.
وقد روى ابن إسحاق بن بشر عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيباً قال: (ذاك خطيب الأنبياء)
قصته مع قومه أهل مدين
وكان أهل مدين كفاراً، يقطعون السبيل ويخيفون المارة، ويعبدون الأيكة وهي شجرة من الأيك حولها غيضة ملتفة بها.
وكانوا من أسوأ الناس معاملة، يبخسون المكيال والميزان، ويطففون فيهما، يأخذون بالزائد ويدفعون بالناقص.
فبعثالله فيهم رجلاً منهم وهو رسول الله شعيب عليه السلام، فدعاهم إلىعبادةالله وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي هذه الأفاعيل القبيحة، منبخس الناسأشيائهم واخافتهم لهم في سبلهم وطرقاتهم فآمن به بعضهم وكفرأكثرهم، حتىأحلَّ الله بهم البأس الشديد. وهو الولي الحميد.
كماقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِاعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْجَاءَتْكُمْبَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}
أي دلالة وحجة واضحةوبرهان قاطع على صدق ما جئتكم به وأنه أرسلني، وهو ماأجرى الله على يديهمن المعجزات التي لم تنقل إلينا تفصيلاً وإن كان هذااللفظ قد دل عليهاإجمالاً.
{فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}.
أمرهمبالعدل ونهاهم عن الظلم وتوعدهم على خلاف ذلك فقال: {ذَلِكُمْخَيْرٌلَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّصِرَاطٍ} أيطريق {تُوعِدُونَ} أي تتوعدون الناس بأخذ أموالهم من مكوسوغير ذلك،وتخيفون السبل.
قال السدي في تفسيره عن الصحابة "ولا تقعدوا بكل صراط توعدون" أنهم كانوا يأخذون العشور من أموال المارة.
وعن ابن عباس قال: كانوا قوماً طغاة بغاة يجلسون على الطريق يبخسون الناس يعني يعشرونهم. وكانوا أول من سن ذلك.
{وَتَصُدُّونَعَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَاعِوَجاً} فنهاهم عنقطع الطريق الحسية الدنيوية، والمعنوية الدينية
{وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}
ذكرهمبنعمة الله تعالى عليهم في تكثيرهم بعد القلة، وحذرهم نقمة الله بهمإنخالفوا ما أرشدهم إليه ودلهم عليه، كما قال لهم في القصة الأخرى:
{وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ}
أي لا تركبوا ما أنتم عليه وتستمروا فيه فيمحق الله بركة ما في أيديكم ويفقركم، ويذهب ما به يغنيكم.
وهذا مضاف إلى عذاب الآخرة، ومن جمع له هذا وهذا فقد باء بالصفقة الخاسرة.
فنهاهم أولاً عن تعاطي ما لا يليق من التطفيف، وحذّرهم سلب نعمة الله عليهم في دنياهم، وعذابه الأليم في أخراهم وعنفهم أشد تعنيف.
ثمقال لهم آمراً بعد ما كان عن ضده زاجراً: {وَيَا قَوْمِأَوْفُواالْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُواالنَّاسَأَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ،بَقِيَّةُاللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاعَلَيْكُمْبِحَفِيظٍ}.
قال ابن عباس والحسن البصري: "بقيّة الله خير لكم" أي رزق الله خير لكم من أخذ أموال الناس.
وقال ابن جرير: ما فضل لكم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان خير لكم من أخذ أموال الناس بالتطفيف.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الربا وان كثر فإن مصيره إلى قُل" أي: إلى قلة.
وقالرسول الله صلى الله عليه وسلم "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإنصدقاوبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما".
والمقصود أن الربح الحلال مبارك فيه وإن قل والحرام لا يجدي وإن كثر، ولهذا قال نبي الله شعيب "بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين".
وقوله "وما أنا عليكم بحفيظ" أي افعلوا ما آمركم به ابتغاء وجه الله ورجاء ثوابه لا لأراكم أنا وغيري.
{قَالُوايَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُآبَاؤُنَاأَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَلأَنْتَالْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}.
يقولون هذا على سبيل الاستهزاء والتنقصوالتهكم: أصلاتك هذه التي تصليهاهي الآمرة لك بأن تحجر علينا فلا نعبد إلاإلهك ونترك ما يعبد آباؤناالأقدمون، وأسلافنا الأولون؟ أو أن لا نتعاملإلاّ على الوجه الذي ترتضيهأنت ونترك المعاملات التي تأباها وإن كنا نحننرضاها؟
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْإِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّيوَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاًحَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْإِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُإِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلَاحَ مَااسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلابِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُوَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
هذا تلطف معهم في العبارة ودعوة لهم إلى الحق بأبين إشارة.
يقوللهم: أرأيتم أيها المكذبون إن كنت على أمر بيِّن من الله تعالى،وأنهأرسلني إليكم، ورزقنى النبوة والرسالة، وعمى عليكم معرفتها، فأي حيلةليفيكم؟
وقوله {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}
أي لست آمركم بالأمر إلا وأنا أول فاعل له، وإذا نهيتكم عن الشيء فأنا أول من يتركه.
"وماأريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت"أي ماأريد في جميع أمري إلا الإصلاح في الفعال والمقال بجهدي وطاقتي.
"وما توفيقي" أي في جميع أحوالي "إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب"
أي: عليه أتوكل في سائر الأمور وإليه مرجعي ومصيري في كل أمري وهذا مقام ترغيب.
ثمانتقل إلى نوه من الترهيب فقال: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْشِقَاقِيأَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَهُودٍ أَوْقَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}.
أيلا تحملنكم مخالفتي وبغضكم ما جئتكم به على الاستمرار على ضلالكموجهلكمومخالفتكم، فيحل الله بكم من العذاب والنكال نظير ما أحلهبنظرائكموأشباهكم، من قوم نوح وقوم هود وقوم صالح من المكذبين المخالفين.
وقوله {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}
قيل معناه في الزمان، أي ما بالعهد من قدم مما قد بلغكم ما أحل بهم على كفرهم وعتوهم.
وقيل: معناه وما هم منكم ببعيد في المحلة والمكان.
وقيل في الصفات والأفعال المستقبحات من قطع الطريق وأخذ أموال الناس جهرة وخفية بأنواع الحيل والشبهات.
والجمع بين هذه الأقوال ممكن فإنهم لم يكونوا بعيدين منهم لا زماناً ولا مكاناً ولا صفات.
ثم مزج الترهيب بالترغيب فقال: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}
أياقلعوا عما أنتم فيه وتوبوا إلى ربكم الرحيم الودود، فإنه من تاب إليهتابعليه، فإنه رحيم بعباده أرحم بهم من الوالدة بولدها، ودود وهو الحبيبولوبعد التوبة على عبده ولو من الموبقات العظام.
{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً}.
روي عن ابن عباس أنهم قالوا: كان ضرير البصر.
وقولهم {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}
وهذا من كفرهم البليغ وعنادهم الشنيع حيث قالوا: "ما نفقه كثيراً مما تقول"
أي ما نفهمه ولا نعقله، لأنه لا نحبه ولا نريده، وليس لنا همة إليه ولا إقبال عليه.
وقولهم{وَإِنَّالَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً} أي مضطهداً مهجوراً {وَلَوْلارَهْطُكَ} أيقبيلتك وعشيرتك فينا {لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَابِعَزِيزٍ}.
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ}
أيتخافون قبيلتي وعشيرتي وترعوني بسببهم ولا تخافون عذاب الله ولاتراعونيلأني رسول الله، فصار رهطي أعز عليكم من الله "أي جانب الله وراءظهوركم"أي هو عليم بما تعملونه وما تصنعونه محيط بذلك وسيجزيكم عليه يومترجعونإليه.
{وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْإِنِّي عَامِلٌ سَوْفَتَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِوَمَنْ هُوَ كَاذِبٌوَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}.
هذاأمر تهديد شديد ووعيد أكيد بأن يستمروا على طريقتهم ومنهجهم وشاكلتهم،فسوفتعلمون من تكون له عاقبة الدار، ومن يحل عليه الهلاك والبوار
{مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي في هذه الحياة الدنيا
{وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي في الأخرى {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} أي مني ومنكم فيما أخبر وبشر وحذر.
{وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}
هذاكقوله: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِيأُرْسِلْتُبِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَاللَّهُبَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}.
{قَالَالْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَيَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْلَتَعُودُنَّفِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ، قَدْافْتَرَيْنَاعَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَإِذْ نَجَّانَااللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَاإِلا أَنْيَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماًعَلَىاللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَقَوْمِنَابِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}.
طلبوا بزعمهم أن يردوا من آمن منهم إلى ملتهم فانتصب شعيب للمحاجة عن قومه فقال: {أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}
أيهؤلاء لا يعودون إليكم اختياراً، وإنما يعودون إليكم إن عادوااضطراراًمكرهين، وذلك لأنَّ الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطهأحد، ولايرتد أحد عنه، ولا محيد لأحد منه.
ولهذا قال:{قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِيمِلَّتِكُمْبَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَاأَنْ نَعُودَفِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَاكُلَّ شَيْءٍعِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا}
أي فهو كافينا، وهو العاصم لنا، وإليه ملجأنا في جميع أمرنا.
ثماستفتح على قومه واستنصر ربه عليهم في تعجيل ما يستحقونه إليهمفقال:{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّوَأَنْتَخَيْرُ الْفَاتِحِينَ}
أي الحاكمين فدعا عليهم، والله لا يرد دعاء رسله إذا انتصروه على الذين جحدوه وكفروه، ورسولهُ خالفوه.
ومعهذا صموا على ما هم عليه مشتملون. وبه متلبسون {وَقَالَ الْمَلأُالَّذِينَكَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنْ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباًإِنَّكُمْ إِذاًلَخَاسِرُونَ}.
هلاك أهل مدين
قال الله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}
ذكرفي سورة الأعراف أنهم أخذتهم رجفة، أي رجفت بهم أرضهم وزلزلتزلزالاًشديداً أزهقت أرواحهم من أجسادها، وصيرت حيوان أرضهم كجمادها،وأصبحتجثثهم جاثية، لا أرواح فيها، ولا حركات بها ولا حواس لها.
وقدجمع الله عليهم أنواعاً من العقوبات وصنوفاً من المثلات، وأشكالاًمنالبليات، وذلك لما اتصفوا به قبيح الصفات، سلط الله عليهم رجفةشديدةأسكنت الحركات، وصيحة عظيمة أخمدت الأصوات، وظلة أرسل عليهم منهاشررالنار من سائر أرجائها والجهات.
ولكنه تعالى أخبر عنهم في كلسورة بما يناسب سياقها، ويوافق طباقها، فيسياق قصة الأعراف أرجفوا نبيالله وأصحابه، وتوعدوهم بالإخراج من قريتهم،أو ليعودن في ملتهم راجعين
فقال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}
فقابل الأرجفاف بالرجفة والإخافة بالخيفة وهذا مناسب هذا السياق ومتعلق بما تقدمه من السياق.
وأمافي سورة هود فذكر أنهم أخذتهم الصيحة، فأصبحوا في ديارهم جاثمين،وذلكلأنهم قالوا لنبي الله على سبيل التهكم والاستهزاء والتنقص:
{أَصَلاتُكَتَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْنَفْعَلَ فِيأَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُالرَّشِيدُ}
فناسبأن يذكر الصيحة التي هي كالزجر عن تعاطي هذا الكلام القبيح الذيواجهوا بهالرسول الكريم الأمين الفصيح، فجاءتهم صيحة أسكتتهم مع رجفةأسكنتهم.
وأما في سورة الشعراء فذكر أنه أخذهم عذاب يوم الظلة، وكان ذلك إجابة لما طلبوا، وتقريباً إلى ما إليه رغبوا. فإنهم قالوا:
{قَالُواإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ، وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌمِثْلُنَاوَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ، فَأَسْقِطْ عَلَيْنَاكِسَفاً مِنْالسَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ، قَالَ رَبِّيأَعْلَمُ بِمَاتَعْمَلُونَ}.
قال الله تعالى وهو السميع العليم {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
ذكروا أنهم أصابهم حر شديد، وأسكن الله هبوب الهواء عنهم سبعة أيام فكان لا ينفعهم مع ذلك ماء ولا ظل ولا دخولهم في الأسراب،
فهربوامن محلتهم إلى البرية، فأظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها ليستظلوابظلها، فلماتكاملوا فيه أرسلها الله ترميهم بشرر وشهب، ورجفت بهم الأرضوجاءتهم صيحةمن السماء فأزهقت الأرواح، وخربت الأشباح.
{فَأَصْبَحُوافِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ، الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباًكَأَنْ لَمْيَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُواهُمْالْخَاسِرِينَ}
ونجى الله شعيباً ومن معه من المؤمنين . كما قال تعالى وهو أصدق القائلين:
{وَلَمَّاجَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوامَعَهُبِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتْ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُفَأَصْبَحُوافِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَاأَلا بُعْداًلِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}.
ثم ذكر تعالى عن نبيهم أنه نعاهم إلى أنفسهم موبخاً ومؤنباً ومقرعاً، فقال تعالى:
{يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ }
أيقد أديت ما كان واجباً علي من البلاغ التام والنصح الكامل وحرصتعلىهدايتكم بكل ما أقدر عليه وأتوصل إليه فلم ينفعكم ذلك لأن الله لا يهديمنيضل وما لهم من ناصرين، فلست أتأسف بعد هذا عليكم لأنكم لم تكونواتقبلونالنصيحة ولا تخافون يوم الفضيحة.
ولهذا قال:{فَكَيْفَ آسَى} أي أحزن {عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ}. أي لايقبلون الحق ولايرجعون إليه ولا يلتفتون إليه فحل بهم من بأس الله الذيلا يرد ما لا يدافعولا يمانع ولا محيد لأحد أريد به عنه، ولا مناص عنه.
وقدذكر الحافظ بن عساكر في تاريخه عن ابن عباس "أن شعيباً عليه السلامكان بعديوسف عليه السلام، وعن وهب بن منبه أن شعيباً عليه السلام ماتبمكة ومن معهمن المؤمنين وقبورهم غربي الكعبة بين دار الندوة ودار بنيسهم"