يشرح راءول ماكلوكلين كيف سلَّط اكتشافُ رسالة كتبها الطبيب العظيم جالينوس الضوءَ على أحد أعظم الأحداث أثرًا في التاريخ الروماني.
في عام ٢٠٠٥ كان أنطوان بيتروبيللي — طالب في جامعة السوربون بباريس — يطالع نُسَخًا على ميكروفيلم لمخطوطات قديمة من دير فلاتادون في مدينة سالونيك باليونان الحديثة، عندما حقَّق كشفًا مذهلًا. فمن بين مجموعة من النصوص التي ترجع إلى العصور الوسطى، عَثَرَ على نسخة من رسالة كتبها الطبيب الإغريقي القديم جالينوس؛ رسالة «في صرف الاغتمام». فهذه الرسالة — التي ظُنَّ أنها دُمِّرَت خلال العصور الوسطى — تُقدِّم رُؤًى جديدة مستبصرة جديرة بالذكر بشأن التجارة العالمية التي انخرطت فيها الإمبراطورية الرومانية في أَوْجِ مجدها. وتكشف أيضًا كيفية تعامُل عامة الشعب مع الأزمات واليأس؛ إذ إنَّ الأحداث التي تشير إليها آذنت بحقبة تدهور سياسي واقتصادي لا مثيل لها في العالم القديم، ويروي هذا السرد الذي كان مفقودًا في الماضي قصةَ كارثةٍ عظيمة حلَّت بمدينة روما في أواخر القرن الثاني الميلادي.
مقطع من نقش بارز على قوس تيتوس الذي شُيِّد عام ٨١ ميلاديًّا تخليدًا لانتصار تيتوس على اليهود عام ٧٠ ميلاديًّا. تظهر فيه مسيرة نصر حاملةً المينوراه؛ الشمعدان السباعي لهيكل سليمان.
ظلَّ كلوديوس جالينوس (عام ١٢٩ ميلاديًّا–نحو عام ٢١٧ ميلاديًّا) محلَّ إجلالٍ لقرونٍ بوصفه أهم خبير من الزمن القديم في نظرية التشريح والممارسة الطبية. وكان مشهورًا بجمعه الوصفات الطبية المكتوبة، واختراع أساليب جراحية متخصصة، وابتكار إجراءات علاجية كثيرة. وكان من المعروف أنَّ جالينوس كتب رسالة إلى صديق في مسقط رأسه برجامه في آسيا الصغرى بشأن طبيعة المِحَن، ولكن لم يتبقَّ من تلك الوثيقة سوى قُصاصات في مخطوطات عبرية وعربية. والوثيقة التي أُعيد اكتشافها تتضمَّن النص الكامل الذي أسدى فيه جالينوس النصح بشأن التغلب على الشدائد بتذكُّر أكبر خسارة تكبَّدها في مسيرته المهنية، عندما شبَّ حريق هائل في مركز روما أحاله حطامًا في ربيع عام ١٩٢ ميلاديًّا.
لطالما أذهل المؤرخين أول «حريق كبير» في روما، وهو الذي اندلع عام ٦٤ ميلاديًّا أثناء عهد الإمبراطور نيرون (الذي امتدَّ عهده من عام ٥٤ ميلاديًّا إلى عام ٦٨ ميلاديًّا). وفي أعقاب تلك الكارثة، ثار سخط الشعب على الإمبراطور، بل وراجت شائعات مفادها أنَّه كان ضالعًا في إشعال الحريق أو نشره. ولكن حتى هذه اللحظة، لم يُعِر أحد انتباهًا يُذكر للحريق المستَعِر الذي اجتاح روما عام ١٩٢ ميلاديًّا في عهد حاكم روماني آخر سيئ السمعة، هو الإمبراطور كومودوس (الذي امتدَّ عهده من عام ١٨٠ ميلاديًّا إلى عام ١٩٢ ميلاديًّا).
كان جالينوس الطبيبَ الخاص لكومودوس الذي صار إمبراطورًا عقب وفاة والده الفيلسوف الرواقي ماركوس أوريليوس (الذي امتدَّ عهده من عام ١٦١ ميلاديًّا إلى عام ١٨٠ ميلاديًّا)، والذي يعتبره كثيرون آخر «الأباطرة الخمسة الصالحين». وثبت أنَّ كومودوس كان مختلفًا أشدَّ الاختلاف عن والده الفيلسوف، وشاع أنه على الأغلب ابن مُجالِد، قيل إنَّ والدته فوستينا كانت على علاقة به. ولا شك أنَّ بطولات كومودوس المشهودة في ساحة المعركة الرومانية إذ ارتدى زيَّ هرقل لم تُفلحْ في إسكات الألسن أو تهدئة مخاوف الرأي العام المحافظ.
كانت روما مدينة ثرية في عهد كومودوس، عامرةً بالنشاط التجاري المزدهر. وبعد الحريق الكبير الأول، شرع نيرون في بناء قصر ترفيهي مترامي الأطراف تُحيط به أراضٍ خاصة فخمة في المكان الذي أُخلِي بفعل الحريق. وأُوقِفَت خطط بناء ذلك «البيت الذهبي» العظيم عندما اعتلى القائد الروماني فِسبازيان سدة الحكم عام ٦٩ ميلاديًّا؛ إذ أصدر أوامر بإعادة الأراضي المؤدية إلى الجانب الغربي من هضبة بالاتين إلى المدينة وتعزيزها بمبانٍ عامة شامخة.
كان أشهر تلك المباني الكولوسيوم. تلك الساحة الحجرية الضخمة — التي كانت تُعرَف قديمًا بالمدرَّج الفلافي — كانت تتسع لجمهور قوامه ٥٠ ألف متفرِّج. في الطرف العلوي من الطريق المقدس، عند أطراف المنتدى الروماني الرئيسي، أنشأ فِسبازيان أيضًا مجمَّعًا مدنيًّا جديدًا ومبهرًا صار يُعرَف بمعبد السلام. شُيِّد ذلك المعبد تخليدًا لذكرى انتهاء الحرب اليهودية (عام ٦٦ ميلاديًّا–عام ٧٠ ميلاديًّا)، عندما قمع فِسبازيان وابنه تيتوس تمرُّدًا كبيرًا في منطقة يهودا. وكان ذلك الصرح يرمز إلى شيء آخر؛ إذ أصبح فِسبازيان الإمبراطور إثر انتصاره في حرب أهلية شرسة. وبهذا أنهى فترة وجيزة — وإن كانت خطيرة — من القلاقل السياسية أُطلِق عليها «عام الأباطرة الأربعة».
أُقيم معبد السلام على تَبَّة مرتفعة أعلى الكولوسيوم فيما يشبه ميدانًا مطوَّقًا بالمباني شاسع المساحة، تتوسطه حديقة ملأى بالبِرَك والتماثيل. كان لذلك الفناء المقدس سمات الحديقة العامة، بينما احتوت المباني المحيطة به على مكتبة كبيرة. عُرِض في إحدى الحجرات الكثيرة بذلك المجمَّع المينوراه اليهودي، وهو الشمعدان السباعي الشُّعَب الذي أُخِذ غنيمةً عندما سقط معبد القدس في أيدي القوات الرومانية. وقد سجَّل المؤرِّخ يوسيفوس ما يلي في مؤلَّفه «الحرب اليهودية» (قرابة عام ٧٥ ميلاديًّا):
معبد السلام تجاوز حدود المخيلة البشرية؛ ففِسبازيان كانت لديه ثروات كبيرة تحت تصرُّفه، وقد زيَّن ذلك المكان بتحف فنية قديمة من الرسم والنحت، وجمع في فناءٍ مقدسٍ واحدٍ كلَّ الأعمال الفنية الفردية التي كان الناس على استعداد لأنْ يجوبوا العالم المعروف لمشاهدتها، ووضع فيه أيضًا تحفًا ذهبية أُخِذت من معبد اليهود.
لذا كان معبد السلام يرمز إلى قوة الدولة الرومانية المستردَّة واستقرارها. وكان يحتلُّ كذلك موقعًا مهمًّا إلى جوار المركز المقدس لروما القديمة وموقع الأضرحة المحفوظة منذ أقدم فترات التاريخ الروماني. وبالقرب منه كان معبد فيستا، أسفل هضبة بالاتين العتيقة في البقعة التي يُقال إنَّ رومولوس أسَّس المدينة فيها. هذا المعبد الدائري الصغير كان مخصَّصًا لإلهة الموقد والبيت الرومانية. وكان فيه نار مقدَّسة ترعاها عذارى فيستا الستُّ، اللائي كُنَّ يُختَرن من أغنى عائلات المدينة وأعلاها مقامًا. كانت شعلة النار ترمز إلى روح روما وثرواتها، وكان يُظَنُّ أنَّ تلك النار إذا انطفأت يومًا فسيكون ذلك نذيرًا بحلول كارثة وشيكة على الدولة الرومانية. وكان معبد فيستا يضمُّ أيضًا تمثال بالاس أثينا (البلاديوم)، وهو تمثال خشبي مقدس لأثينا يُفتَرَض أنَّ إينياس أنقذه من دمار طروادة. وكان يُعتَقَد أنَّ استمرار نجاح روما يعتمد على الاحتفاظ بتلك التحفة الأثرية سالمة.
أشرفَ دوميتيان ابن فِسبازيان (الذي امتد عهده من عام ٨١ ميلاديًّا إلى عام ٩٦ ميلاديًّا) على إتمام تشييد صروح أخرى على طول الطريق المقدس المؤدي من معبد السلام إلى الكولوسيوم. وشُيِّد مخزن إمبراطوري ضخم يُدعى «هوريا بيبِراتاريا (مخزن الفلفل)» بجوار ذلك الطريق الرئيسي المزدحم. وكان المجمَّع ضخمًا إلى حد أنَّ مسقطه الجانبي على الطريق المقدس لم يكن أصغر بكثير من واجهة قصر باكنجهام. وعلى الرغم من أنه كان يُسمَّى «مخزن الفلفل»، فقد كانت تُخزَّن فيه جميع أنواع البخور الواردة من شبه الجزيرة العربية والصومال، إلى جانب التوابل الواردة من الهند والشرق الأقصى.
كان ذلك المخزن للسلع الدولية القيِّمة شاهدًا على مبلغ قوة الرومان؛ ففي كل عام كانت السفن تبحر من موانئ البحر الأحمر في مصر إلى المحيط الهندي، وكانت تزور مراكز التجارة في الصومال وشبه الجزيرة العربية والهند، وتعود بآلاف الأطنان من البضائع الشرقية التي تمدُّ بها الأسواق الرومانية. وكتب الجغرافي الإغريقي سترابو (قرابة عام ٦٤ قبل الميلاد–قرابة عام ٢٤ بعد الميلاد) عن المراحل المبكرة من تلك التجارة الدولية، كاشفًا أنَّ ١٢٠ سفينة رومانية كانت تبحر إلى الهند سنويًّا.
فرضت الحكومة الرومانية ضريبة واردات تُقدَّر برُبع قيمة البضائع الشرقية الداخلة إلى الإمبراطورية، ولكن عوضًا عن الدفع نقدًا كان بإمكان التجار التنازل عن ربع بضاعتهم لضباط الجمارك في مصر. وبما أنَّ كثيرًا من التجار كانوا يستثمرون معظم رأس مالهم في بضائعهم غير المَبيعة، فقد كانوا يختارون هذا البديل؛ ومن ثَمَّ تمكَّنت الحكومة الرومانية من وضع يدها على كميات هائلة من البضائع الشرقية. وثَمَّةَ وثيقة قانونية من تلك الحقبة تؤكِّد العائدات المتحققة عن تلك التجارة. وقد ورد في «بردية موزيريس» من القرن الثاني أنَّ حمولة واحدة من الهند على متن السفينة الرومانية التجارية «هرمابولُّون» كانت تُقدَّر بنحو تسعة ملايين سِسترس (عملة رومانية قديمة). وكانت تلك السفينة مجرد واحدة من كُثُر، وتفسِّر الضريبة النوعية المتراكمة من ذلك الدخل الوارد عن التوابل والبخور تمكُّن نيرون من حرق تلك الكمية الكبيرة من العطور العربية في جنازة زوجته؛ فقد ورد في مؤلَّف «التاريخ الطبيعي» لبلينيوس (نحو ٧٧–٧٩ ميلاديًّا) أنَّ:
أكثر الناس درايةً بتلك المسألة يؤكدون أنَّ شبه الجزيرة العربية لا تنتج في سنة كاملة كمية البخور التي أحرقها الإمبراطور نيرون في الشعائر الجنائزية لقرينته بوبِّيا.
مثَّل مخزن الفلفل مركزًا تجاريًّا ضخمًا تَبيع فيه الدولة منتجات الشرق النادرة لسكان روما بأسعار تخضع لرقابة صارمة. فقد كانت المنتجات الهندية والعربية مكوِّنات حيوية في العلاجات الرومانية، وكثير من الأطباء كانوا يشترون لوازمهم الطبية من ذلك المكان حيث كانت جودة البضاعة وكميتها مضمونة. وقد شجَّع الوجودُ المستمرُّ لهؤلاء الأطباء في مخزن الفلفل تجارَ المستلزمات الطبية على فتح متاجرهم في الجوار. على سبيل المثال: وصف جالينوس في كتابه «حيلة البُرء» متجرًا «قريبًا من الطريق المقدس» يبيع حبلًا رفيعًا من نوع خاص كان يُستورد من بلاد الغال ويُستخدم لأربطة الأوعية الدموية.
كان المخزن مقسَّمًا من الداخل إلى متاهة من حجرات التخزين والساحات المغلقة العالية. وكان ثَمَّةَ قنوات مائية متعددة في جميع أنحاء المجمع من أجل ترطيب الجو الخانق الناجم عن الرائحة الجافة العبقة لمخزونات التوابل. وبمقارنة أبعاد المخزن بغيره من المخازن الكبيرة، يُرَجَّح أنَّه كان يتسع لما يربو على ٥ آلاف طن من التوابل عندما يمتلئ عن آخره. تلك الكمية من التوابل — حتى إن كانت تتألف من الفلفل الأسود البسيط — يمكن أن يبلغ سعرها في السوق أكثر من ٢٠٠ مليون سِسترس، وهو رقم يقارب ربع دخل الدولة الرومانية بأكمله.
تتكشَّف معلومات عن الأشخاص الذين عملوا في مخزن الفلفل في نقش جنائزي من القرن الثاني أوصى بكتابته رجل يُدعَى بوبليوس فيراشيوس فيرموس تكريمًا لذكرى شقيقيه بروكولوس ومارشيلوس، اللذين كانا يعملان في المخزن. أُشير إلى الشقيقين بلقب «بيبِراري»، الذي يمكن ترجمته إلى «عمال الفلفل».
أُتيحت حجرات تخزين خاصة للإيجار في الصرح الخارجي للمخزن. وكشفت نقوش منحوتة على مخزن إمبراطوري بتكليف من الإمبراطور نيرفا (الذي امتد عهده من عام ٩٦ ميلاديًّا إلى عام ٩٨ ميلاديًّا) كيف كانت تلك الترتيبات تتم في الواقع. كان الإيجار يُدفَع سلفًا وتُصادَر البضائع المحتَفَظ بها في وحدات التخزين إنْ لم تتوافر الأجرة. وكان الإيجار مرتفعًا في مخزن الفلفل، لكنَّ البضائع المخزَّنة هناك لحمايتها كانت تُعتبر في أمان فائق؛ فقد كان ثَمَّةَ حراسة عسكرية على المرفق لمنع سرقة البضائع المخزَّنة أو إتلافها. وكان يُظَنُّ أيضًا أنَّ احتمالَ نشوب حريق ضئيلٌ جدًّا؛ لأن المبنى كان مشيدًا من الحجر بالأساس وكان مزوَّدًا بأحواض مياه متعددة للتبريد. لهذه الأسباب كان المهنيون المهتمُّون بالمكونات الطبية الشرقية أو البخور المستخدَم في الأغراض الدينية أو صناعة العطور يختارون ذلك المجمَّع باعتباره مستودعًا آمنًا لبضائعهم التجارية الأهم.
بحلول عام ١٩٢ ميلاديًّا، كان مخزن الفلفل قد ظل سالمًا لما يقرب من قرن؛ ولذلك استأجر جالينوس إحدى وحداته لتخزين المواد القيِّمة التي يجلبها من الشرق واللازمة لممارسة الطب. وقد شرح الموقف في رسالته «في صرف الاغتمام»:
كان الناس يودعون كنوزهم النفيسة في تلك الحجرات لأنهم كانوا واثقين من أنَّ المخازن القائمة على طول الطريق المقدس لن تطولها النار أبدًا. كانت ثقة الناس منبعها عدم وجود أخشاب في المبنى سوى الأبواب، وكذلك لم تكن تلك المخازن قريبة من أي منازل خاصة كبيرة. إضافةً إلى ذلك، فقد كان المرفق تحت حراسة عسكرية.
لكن ثبت خطأ جالينوس فيما يتعلق بظنه عن أمان مجمَّع التوابل.
وحتى هذه اللحظة، أفضل وصف لدينا للحريق الكبير الذي نشب عام ١٩٢ ميلاديًّا قدَّمه القنصل الروماني والمؤرخ ديو كاسيوس (نحو عام ١٦٥ ميلاديًّا–نحو عام ٢٢٩ ميلاديًّا)، الذي عايش الحدث؛ فكتب:
سبق موت كومودوس نُذُر شؤم؛ إذ حلَّقت نسور كثيرة فوق معبد كابيتوليوم وأطلقت صيحات لا تبشِّر بخير. وسُمِع نعيق بوم في لحظات الليل السابقة لنشوب حريق في أحد المنازل وبلوغه معبد السلام. ومن هناك اجتاح الحريق مخازن البضائع المصرية والعربية.
كان النسر رمز السلطة الرومانية، والبوم مقدسًا لدى أثينا، وكانت صيحات الإنذار التي أطلقاها في سماء روما تتوعَّد بحلول مصاب فادح على الإمبراطورية. أكَّد ديو أنَّ ألسنة اللهب التي ابتلعت معبد السلام حُمِلت بعيدًا حتى هضبة بالاتين؛ حيث بلغت النيران القصر الإمبراطوري المعروف بقصر دوموس تيبيريانا، فدمَّرت قطاعات كبيرة من المبنى وأحرقت سجلات الدولة كلها تقريبًا.
تمثال نصفي للإمبراطور كومودوس، القرن الثاني الميلادي.
تقدم رسالة جالينوس وصفًا جديدًا للحريق ونظرة جديدة لنشأته إذ اجتاح قلب روما المقدس. وطبقًا لرواية جالينوس للأحداث، وصل الحريق إلى مخزن الفلفل أولًا، ثم امتدَّ عبر الطريق المقدس وصولًا إلى معبد السلام. ومن هناك امتدت ألسنة اللهب إلى هضبة بالاتين والقصر الإمبراطوري.
تأجَّجت النيران في مئات الأطنان من التوابل والبخور المخزَّنة في مخزن الفلفل. تلك المواد الثمينة كانت وثيقة الصلة بالقرابين الإلهية، ولا بد أنَّ سُحب الدخان ذات الرائحة الحِرِّيفة التي تصاعدت في سماء الليل عبِقت بعطور شبه الجزيرة العربية. وهذا قد شجَّع الاعتقادَ بأنَّ الحريق كان ذا نشأة خارقة للطبيعة وغاية سماوية. وعلى الأرجح لاح للناظر أنَّ مخزن الفلفل كان يقدِّم نفسه قربانًا للآلهة في حريق هائل مروِّع.
ولا شك أن ديو كاسيوس كان يعتقد أنَّ ذلك الحريق به عنصر خارق للطبيعة؛ إذ كان نذيرًا من الآلهة بموت كومودوس وانهيار الإمبراطورية. وكان المؤرخ هيروديان (نحو عام ١٧٠ ميلاديًّا–نحو عام ٢٤٠ ميلاديًّا) — الذي كان شابًّا في روما وقت الحريق — يعتقد أيضًا أنَّ الحريق لم يكن حادثًا. وذكر نُذُرًا غريبة أخرى سبقت الحريق، منها النجوم التي ظلت بازغة طوال النهار. وقد استند إلى الروايات الرائجة في وصف الحريق كالآتي:
لم يكن ثَمَّةَ تجمُّع لسُحب داكنة، وإنما استُشعِرت هزة أرضية تمهيدية. لم يكن ثَمَّةَ عاصفة رعدية عندما ضربت الأرض صاعقة أو اشتعلت النار إثر الهزة. وأُحيل معبد السلام — أكبر وأجمل المباني في المدينة قاطبة — رمادًا.
وامتدت ألسنة اللهب — كأنما كانت بتوجيه من قوة إلهية ما — إلى معبد فيستا؛ الموقد المقدَّس لروما القديمة. وفيما يلي يصف هيروديان المشهد المروِّع:
عندما اشتعلت النيران في معبد فيستا، كُشِف تمثال أثينا بالاس للجمهور، وهو التمثال الذي يعبده الرومان ويُبقونه بعيدًا عن الأنظار؛ التمثال الذي أُحضِر من طروادة. والآن — لأول مرة — رآه رجال من زمننا. فما كان من عذارى فيستا إلا أن حملن التمثال وهربن به من الطريق المقدس إلى القصر الإمبراطوري.
إلا أنَّ الحريق المهلِك تبع خطاهن إلى القصر. فلا بد أنَّ الرومان وقفوا يشاهدون في فزعٍ التحام النيران المهلكة مع شعلة فيستا المقدسة إذ التهمت النيران المدينة.
استمرَّ الحريق أيامًا وبدا أنه ما من قوة بشرية يمكن أن تطفئ النيران. ووصف ديو كاسيوس الجهود المحمومة التي بذلها عدد هائل من المدنيين والجنود؛ فحملوا المياه وألقَوْها على الأرض أمام النار المقتربة ورطَّبوا بها جدران المباني المحترقة. وحتى كومودوس جاء لتشجيع الجموع، ولكن بلا طائل. وفجأة تبدَّل الجوُّ وانهمرت الأمطار على المدينة. فكتب هيروديان:
لهذا السبب علم الناس أنَّ تلك الكارثة كانت من تدبير الآلهة بالفعل؛ فقد صار الناس على قناعةٍ الآن بأنَّ الحريق بدأ وتوقف بإرادة الآلهة وقوتها.
ولم يبدأ الناس في استيعاب مبلغ خسارتهم إلا عندما أُخمدت النيران.
يصف ديو كاسيوس معبد السلام بأنه أكثر المباني المقدسة غِنًى في روما؛ إذ احتوى على كنز دفين هائل من التحف الذهبية والفضية. كان الظن السائد هو أنَّ ذلك الفناء أكثر بقعة آمنة في المدينة؛ ومن ثَمَّ مثَّل مستودعًا مهمًّا يمكن للناس تخزين أموالهم الخاصة فيه بأمان. فقد أبقى كثير من الناس أغلى ممتلكاتهم في المعبد حِفاظًا عليها عندما اندلع الحريق؛ ففقدوا مدَّخراتهم، وفقد بعضهم ثروات كاملة في تلك الكارثة الواحدة. وذكر ديو كاسيوس:
كان الجميع يستخدمون المعبد مستودعًا لأغلى مقتنياتهم. وفي ليلة واحدة، أحال الحريق رجالًا أثرياء إلى فقراء. فاشترك الجميع في الحداد على تدمير الصرح العام، لكن تحسَّر كل شخص أيضًا على مصابه الشخصي.
وتكهَّن الناس بأنَّ دمار معبد السلام كان نذيرًا بالحرب. وكانت رائحة الحريق تشبه قربانًا جنائزيًّا هائلًا، وأضاف ديو كاسيوس متشائمًا أنَّ احتراق المخازن المليئة بالسلع الأجنبية كان إشارة إلى أنَّ الشرَّ المقبِل سوف يشمل العالم أجمع. وقال هيروديان إنَّ كومودوس فَقَدَ تأييد الناس وإنهم ألقَوْا مصائبهم على عاتق الإمبراطور مباشرةً. وتُصَوِّر تجربة جالينوس — المسجلة في رسالته إلى موطنه برجامه — الكربَ الذي عانى منه أناس كُثُر بعد الحريق الكبير.
كان جالينوس قد انتقل بالفعل إلى منزله الريفي الجديد في كمبانيا عندما بلغته أنباء الكارثة. مثَّل الحريق كارثة على المستوى الشخصي؛ إذ كان جالينوس قد وضع في حجرة التخزين الخاصة به في مخزن الفلفل معظم مقتنياته الثمينة بصفة مؤقتة للحفاظ عليها أثناء انتقاله إلى منزله الجديد. كان من ضمن تلك المقتنيات أصول مالية قيِّمة كعملات ذهبية وفضيات غالية وإقرارات بديون مُستحَقة له. لكن الخسارة الحقيقية التي استشعرها جالينوس كانت تدمير مواد أبحاثه، ومنها عدد كبير من الكتب والعلاجات المتخصِّصة ومجموعة متنوعة من الأدوات الطبية الفريدة من نوعها. كان جالينوس ينتوي استعادة تلك الممتلكات من حجرة التخزين في بداية الصيف، ولو كان الحريق نشب بعد شهرين لا أكثر، لوصلت أبحاثه سالمة إلى منزله الجديد. وقد علَّق جالينوس على ذلك قائلًا:
لقد نصب لي القَدَر شَرَكًا ليحرمني من كثيرٍ من كتبي الطبية. وقد تكبَّدت خسارة فادحة أخرى، ألا وهي دراسة المفردات اللغوية التي جمعتها من الكوميديا الإغريقية.
تكشف رسالة جالينوس أيضًا كيف استخدم أصحاب المهن الطبية الحجرات الخارجية في مخزن الفلفل؛ فوصف كيف صفَّ بعنايةٍ مجموعة فريدة من المكونات النادرة والمستحضرات الطبية غير العادية في حجرة التخزين الخاصة به. كان بعض تلك المواد من القصر الإمبراطوري، وقد حصل عليها جالينوس عندما كان يحضِّر الأدوية لماركوس أوريليوس. وتضمَّنت كمية كبيرة من القِرفة الطبية العالية الجودة التي رأى جالينوس أنَّه لن يتمكن من تعويضها أبدًا. كان جالينوس يعتبر تلك اللوازم الطبية الغالية أساسية لمهنته ولا يمكن الاستعاضة عنها من خلال التعامل مع التجار الفرديين.
كانت الأبحاث التي فقدها جالينوس في الحريق تتضمن نسخًا أصلية من أول كتابين في دراسته الطبية «في تركيب الأدوية بحسب الأجناس». وتضمنت الأبحاث الأخرى التي دمرها الحريق مذكرات ودراسات كثيرة. وفي مؤلَّف آخر بعنوان «عن كتبي»، كتب جالينوس:
كنت لا أزال منخرطًا في البحث في بعض الموضوعات وكتبت الكثير فيما يتعلق بتلك الدراسات. كنت بصدد تدريب نفسي على حلِّ جميع أنواع المشكلات الطبية والفلسفية، لكني فقدت معظم تلك المواد في الحريق الكبير.
قدَّم جالينوس في رسالته تفاصيل إضافية عن ذلك البحث وأهميته لسيرته المهنية المبكرة. وشرح كيف ورث عندما كان طبيبًا شابًّا أبحاثًا طبية مهمة جمَّعها أطباء بارزون من مسقط رأسه. إحدى تلك المجموعات تتضمَّن مركَّبات متخصِّصة دُفِع نظيرَ كلٍّ منها أكثر من ١٠٠ قطعة ذهبية. وتضمَّنت مجموعة خاصة أخرى من طبيب كبير يُدعَى تيوثراس علاجات طبية «مجمَّعة من جميع أنحاء العالم» و«لا يمتلكها شخص آخر». وعندما تُوفِّي تيوثراس متأثرًا بالطاعون الأنطوني الذي تفشَّى بين عامَيْ ١٦٥ ميلاديًّا و١٨٠ ميلاديًّا، أصبح جالينوس المستفيد الوحيد من تلك المعرفة.
أسَّس جالينوس ممارسته الطبية في شبابه على تلك الدراسات؛ فذكر في رسالته أنَّه:
إن كان ثَمَّةَ من يمتلك علاجًا مهمًّا، كنت أستطيع الحصول عليه دون صعوبة جمَّة؛ فما كان منِّي إلا أن أبدِّله بعلاجين أو ثلاثة علاجات مكافِئة من تلك المجموعات.
لكن بعد الحريق لم يتبقَّ لجالينوس سوى عدد صغير من علاجاتٍ كان قد أخذها معه إلى كمبانيا، ومرَكَّبات كان قد عهد بها طوعًا إلى أطباء آخرين؛ لذا فقد أتت النيران التي التهمت حجرات مخزن الفلفل على ثروةٍ من المعرفة المهنية لا يمكن تعويضها.
وكان جالينوس قد وضع معدَّاته الطبية أيضًا في غرفة التخزين قبل أن ينتقل من منزله القديم، ومنها أدوات فريدة من نوعها كان قد اجتهد في تصميمها وصُنعها بنفسه لأداء عمليات معينة. دُمِّرت تلك الأدوات، وذكر جالينوس أنه في كلِّ يوم بعد تلك الواقعة كان يستشعر حاجةً إلى كتابٍ أو مكوِّنٍ أو علاجٍ ما، ثم يكتشف أنه زال من الوجود. إلا أنَّ تلك الخسارة الشخصية كانت جزءًا من مأساة أكبر مثلما شرح جالينوس في رسالته قائلًا:
إلا أنني لم أذكر أسوأ ما في الأمر؛ فلم يكن ثَمَّةَ أمل في تعويض مجموعة الكتب التي فقدتها؛ إذ إنَّ جميع المكتبات على هضبة بالاتين احترقت في ذاك اليوم.
فلا بد أنَّ كثيرين من أصحاب المهن الأخرى تكبَّدوا خسائر مماثلة في ذلك الحريق الكبير؛ ففي أرضٍ مجاورة لمخزن الفلفل، كان مُشيَّدًا «هوريا فِسبازيانا» (مخزن فِسبازيان). كان ذلك مخزنًا عملاقًا شُيِّد لتخزين البضائع المحصَّلة عن طريق الضرائب المفروضة على المزارع المصرية. واحترق ذلك المخزن أيضًا عندما اجتاحت النيران الطريق المقدس، لتحرق مخزونات هائلة من الكتَّان وورق البردي. وقد اختار الباحثون الاحتفاظ بأبحاثهم في مخازن بالقرب من تلك المنشأة، والتهمتها النيران هي الأخرى؛ ففقد بعض الأكاديميين حصيلة عملهم طوال حياتهم من أبحاث ومعرفة ودراسات. وحكى جالينوس عن عالِم النحو فيليبيدس، الذي تُوفِّي بعد فترة قصيرة من التهام النيران لكتبه الثمينة. وقيل إنه لم يتحمل اليأس والألم الناجمَين عن خسارته. والحقيقة أنَّ كل من أصابهم الدمار راحوا يجولون بعباءات سوداء فترة طويلة، وقد بدا بعضهم هزيلًا شاحبًا، وكلهم لاحت عليه مظاهر الحداد.
استهلَّ الحريق عهدًا جديدًا من عدم الأمان والمعاناة لسكان روما؛ ففي أعقابه أعلن كومودوس نفسه رومولوسًا جديدًا وتعهَّد بإعادة بناء القلب المقدس للمدينة. إلا أنَّ تصرُّفاته كانت مشوبة بجنون العظمة، وكان ينتوي إعادة تسمية مؤسسات الدولة الكبرى تكريمًا له، وصارت روما نفسها تُعرَف باسم «كولونيا كوموديانا» (مستعمرة كومودوس). وفي غضون عامٍ أقنع المتآمرون مدرِّب المصارعة الشخصي لكومودوس بأن يخنقه. ونصَّب الحرس الإمبراطوري رجلًا يُدعَى برتيناكس إمبراطورًا جديدًا، وأعلن مجلس الشيوخ «محو ذكرى» كومودوس لإزالته من الذاكرة الشعبية. واجه برتيناكس صعوبة جمَّة في تدبير العطايا المالية التي كان الحرس الإمبراطوري يتوقعونها، وفي غضون بضعة أشهر اغتيل هو أيضًا. وفي عام ١٩٣ ميلاديًّا — بعد قرن من الاستقرار — اندلعت الحرب الأهلية مجددًا في جميع أنحاء الإمبراطورية، وتقاتلت الجيوش الإقليمية على الحكم الأوحد لروما. وهكذا بدأ «عام الأباطرة الخمسة».
مثَّل القرن التالي حقبة اضطرابات سياسية متزايدة للإمبراطورية الرومانية؛ فقد ازداد تواتر الحروب الأهلية، وانقطعت الإيرادات، ودخلت الإمبراطورية حقبة تدهور اقتصادي خطير؛ فالازدهار الناجم عما تأتي به الأساطيل التجارية الرومانية من الهند البعيدة ذبُل في ظل عالم يعاني الأزمات والاضطرابات المتفاقمة. وبحلول عام ٢٢٧ ميلاديًّا، انخفضت الضريبة الرومانية على التجارة الدولية إلى الثُّمن، ولم تتلقَّ الدولة بعد ذلك قطُّ الكميات الهائلة الغالية التي كانت تحصل عليها من التوابل والبخور. ولم يعد ثَمَّةَ وجود للدخل الذي استخدمه الأباطرة الفلافيون لبناء مخازن تجارية ضخمة في قلب روما.
بفضل دقة ملاحظة أنطوان بيتروبيللي، أُعيد للباحثين والأطباء في عصرنا الحديث سرد شخصي فريد من العالم القديم؛ فقد أخبر جالينوس صديقة في رسالته «في صرف الاغتمام» عن الخسارة الفادحة التي تكبَّدها في حياته، وأنه رغم ذلك لم ينغمس في الأسى قط. وأوضح أنه بعد الحريق: «أنا وحدي — مُثبِتًا قوة حبي للعمل التي استشعرتها طوال حياتي — لم يغلبني الشعور بالغم.» فعوضًا عن التحسُّر على مصيره، قرَّر جالينوس أن يوجِّه انتباهه إلى المستقبل ويستعيد المواد اللازمة لمواصلة عمله في الطب. يُعتقَد أنَّ جالينوس تُوفِّي في عام ٢١٧ ميلاديًّا، عن عمر يناهز ٨٧ عامًا. وفي وقت وفاته، كان قد خصَّص قرابة ٧٠ عامًا لدراسة الفلسفة والطب، لكنه لم يتكبَّد خسارة أكبر من خسارته في الحريق الكبير عام ١٩٢ ميلاديًّا.