ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا
يجوز أن تكون عطفا على جملة كذلك أرسلناك في أمة ; لأن المقصود من الجملة المعطوف عليها أن رسالته لم تكن إلا مثل رسالة غيره من الرسل عليهم السلام كما أشار إليه صفة أمة قد خلت من قبلها أمم ، فتكون جملة ولو أن قرآنا تتمة للجواب عن قولهم لولا أنزل عليه آية من ربه .
[ ص: 143 ] ويجوز أن تكون معترضة بين جملة قل هو ربي وبين جملة أفمن هو قائم على كل نفس كما سيأتي هنالك . ويجوز أن تكون محكية بالقول عطفا على جملة هو ربي لا إله إلا هو .
والمعنى : لو أن كتابا من الكتب السالفة اشتمل على أكثر من الهداية فكانت مصادر لإيجاد العجائب لكان هذا القرآن كذلك ولكن لم يكن قرآن كذلك ، فهذا القرآن لا يتطلب منه الاشتمال على ذلك إذ ليس ذلك من سنن الكتب الإلهية .
وجواب لو محذوف لدلالة المقام عليه . وحذف جواب لو كثير في القرآن كقوله ولو ترى إذ وقفوا على النار وقوله ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم .
ويفيد ذلك معنى تعريضيا بالنداء عليهم بنهاية ضلالتهم ، إذ لم يهتدوا بهدي القرآن ودلائله ، والحال لو أن قرآنا أمر الجبال أن تسير والأرض أن تتقطع والموتى أن تتكلم لكان هذا القرآن بالغا ذلك ولكن ذلك ليس من شأن الكتب ، فيكون على حد قول أبي بن سلمى من الحماسة :
ولو طار ذو حافر قبلها لطارت ولكنه لم يطر
ووجه تخصيص هذه الأشياء الثلاثة من بين الخوارق المفروضة ما رواه الواحدي والطبري عن ابن عباس : إن كفار قريش أبا جهل وابن أبي أمية جلسوا خلف الكعبة ثم أرسلوا إلى النبيء صلى الله عليه وسلم فقالوا : لو وسعت لنا جبال مكة فسيرتها حتى تتسع أرضنا فنحترثها فإنها ضيقة ، أو قرب إلينا الشام فإنا نتجر إليها ، أو أخرج قصيا نكلمه .
وقد يؤيد هذه الرواية أنه تكرر فرض تكليم الموتى بقوله في سورة الأنعام ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى ، فكان في ذكر [ ص: 144 ] هذه الأشياء إشارة إلى تهكمهم . وعلى هذا يكون قطعت به الأرض قطعت مسافات الأسفار كقوله تعالى لقد تقطع بينكم .
وجملة بل لله الأمر جميعا عطف على ولو أن قرآنا بحرف الإضراب . أي ليس ذلك من شأن الكتب بل لله أمر كل محدث فهو الذي أنزل الكتاب وهو الذي يخلق العجائب إن شاء ، وليس ذلك إلى النبيء صلى الله عليه وسلم ولا عند سؤالكم . فأمر الله نبيه بأن يقول هذا الكلام إجراء لكلامهم على خلاف مرادهم على طريقة الأسلوب الحكيم . لأنهم ما أرادوا بما قالوه إلا التهكم ، فحمل كلامهم على خلاف مرادهم تنبيها على أن الأولى بهم أن ينظروا هل كان في الكتب السابقة قرآن يتأتى به مثل ما سألوه .
ومثل ذلك قول الحجاج للقبعثرى : لأحملنك على الأدهم يريد القيد . فأجابه القبعثرى بأن قال : مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب ، فصرفه إلى لون فرس .
والأمر هنا : التصرف التكويني ، أي ليس القرآن ولا غيره بمكون شيئا مما سألتم بل الله الذي يكون الأشياء .
وقد أفادت الجملتان المعطوفة والمعطوف عليها معنى القصر ; لأن العطف ب ( بل ) من طرق القصر ، فاللام في قوله الأمر للاستغراق ، و جميعا تأكيد له . وتقديم المجرور على المبتدأ لمجرد الاهتمام ; لأن القصر أفيد ب ( بل ) العاطفة .
وفرع على الجملتين أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا استفهاما إنكاريا إنكارا لانتفاء يأس الذين آمنوا ، أي فهم حقيقون بزوال يأسهم وأن يعلموا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا .
وفي هذا الكلام زيادة تقرير لمضمون جملة قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب .
[ ص: 145 ] و ييأس بمعنى يوقن ويعلم ، ولا يستعمل هذا الفعل إلا مع أن المصدرية ، وأصله مشتق من اليأس الذي هو تيقن عدم حصول المطلوب بعد البحث ، فاستعمل في مطلق اليقين على طريقة المجاز المرسل بعلاقة اللزوم لتضمن معنى اليأس معنى العلم وشاع ذلك حتى صار حقيقة ، ومنه قول سحيم بن وثيل الرياحي :
أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تأيسوا أني ابن فارس زهدم
وشواهد أخرى .
وقد قيل : إن استعمال يئس بمعنى علم لغة هوازن أو لغة بني وهبيل فخذ من النخع سمي باسم جد وليس هنالك ما يلجئ إلى هذا . هذا إذا جعل أن لو يشاء الله مفعولا ل ييأس ، ويجوز أن يكون متعلق ييأس محذوفا دل عليه المقام . تقديره : من إيمان هؤلاء ، ويكون أن لو يشاء الله مجرورا بلام تعليل محذوفة . والتقدير : لأنه لو يشاء الله لهدى الناس ، فيكون تعليلا لإنكار عدم يأسهم على تقدير حصوله .