الخطبة[ ] الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة[ ] أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد
فاتقوا الله معاشر المسلمين، فإن تقوى الله أقوم وأقوى، وتوكلوا على الله ومن توكل على الله كفاه وأغناه، وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله[ ] قريب من المحسنين. {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
أيها المسلمون!
في الأيام الماضية ودَّعنا شهر الصيام[ ] ، ولكن ألسنتنا لا تزال طريةً بالقرآن، وقلوبنا عامرة بالتقوى والإيمان، وهكذا ينبغي أن تكون آثار شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، ومن المفترض أن لا تحيط الغشاوة بأبصارنا فتمنعها من رؤية المحتاج، وتقبض أيدينا عن وجوه الإنفاق والبر والإحسان.
تُرى، أتستطيع الشياطين بعد أن أطلقت قيودها أن تحجبنا عن حضور جماعات المسلمين آناء الليل وأطراف والنهار، وقد كنا في رمضان[ ] من المبادرين إلى الصلوات وفي مقدمتها صلاة الفجر[ ] وصلاة العشاء؟
وإذا كان من فضل الله علينا في رمضان أن تبعدنا عن سمات المنافقين أفنتخبط في الظلمة في شوال أو في غيره من أشهر العام، فننام عن بعض الصلوات المكتوبة ونفرط في صلاة الجماعة[ ] .
وإني سائل نفسي وإياك يا أخا الإسلام!
كم جزءاً من كتاب الله قرأنا بعد انقضاء شهر الصيام؟
وكم ركعة لله من غير الفريضة ركعناها بعد انقضاء شهر القيام؟
وهل صمنا شيئاً من ست شوال التي جاء في فضلها ما نعلم، بعد انقضاء شهر الصيام؟
إلى غير ذلكم من أعمال عمرت بها قلوبنا واستقامت بها حياتنا في شهر رمضان.
فإن قلنا: إن تقصيرنا هذه الأيام لفرحة العيد وظروفه، وهو معوض بصلة الأرحام وزيارة الأصحاب والإخوان، ولا يزال في الشهر متسع للصيام أو التلاوة أو غيره من الطاعات والإحسان، فيرد السؤال الآخر عاجلاً: وهل أضمرنا نية الخير ومواصلة الطاعة وعدم الركون للكسل بعد شهر رمضان؟
وهل سنأخذ أنفسنا بالعزيمة أن يمضي العمر بالأماني الفارغة وركوب بحر التمني؟
وهو البحر الذي لا ساحل له، وهو كما قيل: مركب مفاليس العالم. وبضاعة ركابه مواعيد الشيطان[ ] وخيالات المحال والبهتان، وهي كما يقول ابن القيم[ ] رحمه الله: "بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية، ليس لها همة تنال بها الحقائق الخارجية، بل اعتاضت عنها بالأماني الذهنية".
عباد الله!
إذا كنا قد عزمنا على التوبة[ ] في شهر التوبة والغفران، فمن الفهوم الخاطئة أن نقصر التوبة على شهر رمضان، ومن الخطأ كذلك أن نقصر التوبة على الإقلاع عن الذنب والندم عليه، وعدم الرجوع إليه مرة أخرى، فهذا جزء من التوبة، وجزؤها الآخر يبسطه لنا الإمام ابن القيم رحمه الله من خلال نصوص الوحيين، فيقول مجلياً للصورة وموضحاً لحقيقة التوبة -وهو كلام نفيس فاعقلوه-: "وكثير من الناس إنما يفسر التوبة بالعزم على أن لا يعاود الذنب، وبالإقلاع عنه في الحال، وبالندم عليه في الماضي، وإن كان في حق آدمي فلا بد من أمر رابع وهو التحلل منه، وهذا الذي ذكروه بعض مسمى التوبة بل شرطها، وإلا فالتوبة في كلام الله ورسوله -كما تتضمن ذلك- تتضمن العزم على فعل المأمور والتزامه، فلا يكون بمجرد الإقلاع والعزم والندم تائباً، حتى يوجد منه العزم الجازم على فعل المأمور، والإتيان به، هذا حقيقة التوبة، وهي اسم لمجموع الأمرين… "
ثم يقول: "فإن حقيقة التوبة الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يحب، وترك ما يكره، فهي رجوع من مكروه إلى محبوب، فالرجوع إلى المحبوب جزء مسماها، والرجوع عن المكروه الجزء الآخر، ولهذا علق سبحانه الفلاح المطلق على فعل المأمور وترك المحظور بها، فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] فكل تائب مفلح، ولا يكون مفلحاً إلا من فعل ما أُمِر به، وترك ما نهي عنه، وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11]. وتارك المأمور ظالم، كما أن فاعل المحظور ظالم، وزوال إسم الظلم[ ] عنه إنما يكون بالتوبة الجامعة للأمرين...". إلى أن يقول رحمه الله: "فالتوبة إذاً هي حقيقة دين الإسلام، والدين كله داخل في مسمى التوبة، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وإنما يحب الله من فعل ما أُمر به وترك ما نهي عنه، والتوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه الله ظاهراً وباطناً، ويدخل في مسماها الإسلام والإيمان والإحسان. لهذا كانت غاية كل مؤمن، وبداية الأمر وخاتمته"، ثم يختم حديثه بالقول: "وأكثر الناس لا يعرفون قدر التوبة ولا حقيقتها فضلاً عن القيام بها علماً وعملاً وحالاً… ولولا أن التوبة اسم جامع لشرائع الإسلام وحقائق الإيمان[ ] لم يكن الرب تبارك وتعالى يفرح بتوبة عبده ذلك الفرح العظيم، فجميع ما يتكلم فيه الناس من المقامات والأحوال هو تفاصيل التوبة وآثارها".
أيها المسلمون!
إذا كان هذا عن معنى التوبة وقدرها، فاعلم أن التوبة محفوفة بتوبة من الله على العبد قبلها، وتوبة منه بعدها. فتوبته بين توبتين من ربه سابقة ولاحقة.
فإن تاب عليه أولاً إذناً وتوفيقاً وإلهاماً، فتاب العبد فتاب الله عليه قبولاً وإثابة، وتأملوا قول الله سبحانه: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:117-118].
فأخبر سبحانه أن توبته عليهم سبقت توبتهم، وأنها هي التي جعلتهم تائبين، فكانت سبباً مقتضياً لتوبتهم، فدل على أنهم ما تابوا حتى تاب الله عليهم، والحكم ينتفي لانتفاء علته.
فبادر إلى التوبة بمفهومها الشامل يا أخا الإيمان عاجلاً، واسأل الله أن يوفقك إليها ابتداء، وأن يقبلها منك، ويثيبك عليها انتهاء، والزم الاستغفار[ ] ، وهو غير التوبة، إذا ورد في موضع واحد، فالاستغفار: طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله.
والاستغفار من باب إزالة الضرر، والتوبة طلب جلب المنفعة، ولهذا جاء الأمر بها مرتباً بقوله: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} [هود:3]. فإنه الرجوع إلى طريق الحق بعد مفارقة الباطل.
أيها المسلمون!
مداواة القلوب[ ] بهذه الأدوية الناجعة لا يتوقف على رمضان، فمصيبةٌ أن يفيء المسلمون إلى ربهم في رمضان، ويظلوا شاردين عن هذه في سائر العام، مصيبةٌ عظمى؛ أن يقصر المسلم إجابته لداعي القرآن في شهر رمضان يظل هاجراً للقرآن طوال العام.
إن التوبة إلى الله إن فضلت في زمان دون زمان فهي باقية صمام الأمان لمن ابتغى الأمن ورضا الرحمن، ولست تدري يا أخا الإيمان متى يحين الرحيل فتنتقل من دار الفناء إلى دار المقام.
وإن الإنابة إلى الله ليست محدودة بزمان ولا مكان، بل دعيت إليها قبل حلول العذاب، وحينها يعزُّ الناصر وتنتهي فترة الإمهال، وإذا أنبت بها صادقاً فأظهر من الذل والافتقار بين يديه ما يشهد بعبوديتك للواحد الديان.
يحكى عن بعض العارفين أنه قال: "دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام، فلم أتمكن من الدخول حتى جئت باب الذل والافتقار، فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه فلا مزاحم فيه ولا معوق".
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية[ ] رحمه الله يقول: "من أراد السعادة[ ] الأبدية فليلزم عتبة العبودية".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} [الزمر:53-54].
نفعني الله وإياكم بهدي القرآن وسنة محمد صلى الله عليه وسلم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله المستحق للعبادة على الدوام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ربُّ الشهور والأعوام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله جاءه بالوحي من ربه، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[الحجر: 99]. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.
أما بعد،
إخوة الإسلام فقد عودكم شهر الصيام على الاقتصاد في الطعام والشراب، ومدرسة الصوم علمتكم الإقلال من الكلام الفراغ معوضين عن ذلك بكثرة الذكر[ ] وتلاوة القرآن، كما كان من نسمات رمضان التخلص من خلطة السوء التي لا يسلم الصوم معها من اللغو والرفث والفسوق والعصيان، كما أحوجكم طول القيام إلى تقليل ساعات النوم حتى قلَّ معدل النوم في شهر رمضان عنه في غير رمضان.
ترى أي نصيب يحافظ عليه من هذه بعد انقضاء شهر الصيام؟
والعارفون يقولون إن مفسدات القلب[ ] على الدوام خمسة أشياء هي: كثرة الخلطة، والتمني، والتعلق بغير الله، والشبع، والمنام، فهذه الخمسة من أكبر مفسدات القلب.
فأما كثرة الخلطة: فتملأ القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسودَّ، ويوجب له تشتتاً وتفرقاً، وهمّاً وغمّاً، وضعفاً، وحملاً لما يعجز عن حمله من مؤنة قرناء السوء، وإضاعة مصالحه، والاشتغال عنها بهم وبأمورهم، وتقسُّم فكره في أودية مطالبهم وإرادتهم، فماذا يبقى منه لله والدار الآخر؟ وكم جلبت خلطة الناس من أجل الدنيا[ ] من نقمة ودفعت من نعمة!.
والضابط النافع في أمر الخلطة: أن يخالط الناس في الخير، كالجمعة والجماعة، والأعياد والحج، وتعلم العلم، والجهاد والنصيحة، ويعتزلهم في الشر وفضول المباحات، فإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر، ولم يمكنه اعتزالهم فالحذر الحذر أن يوافقهم! وليصبر على أذاهم، فإنهم لا بد أن يؤذوه إن لم يكن له قوة ولا ناصر، ولكن أذىً يعقبه عزٌّ ومحبة له وتعظيم وثناء عليه منهم، ومن المؤمنين ومن رب العالمين، وموافقتهم يعقبه ذلٌّ وبغض له، ومقتٌ وذمٌ منهم، ومن المؤمنين ومن ربِّ العالمين.
أما المفسد الثاني: فهو التعلق بغير الله تبارك وتعالى، وهذا أعظم المفسدات والقلب على الإطلاق، فإن من تعلق بغير الله وكله الله إلى ما تعلق به، وخذله من جهة ما تعلق به، وفاته تحصيل مقصوده من الله عز وجل، فلا على نصيبه من الله حصل ولا إلى ما أمله ممن تعلق به وصل، قال تعالى : {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم[ ] :81-82].
قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ. لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ} [يس:74-75].
ومثل المتعلق بغير الله كمثل المستظل من الحرِّ والبرد ببيت العنكبوت، {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41].
وكيف لا يكون ذلك كذلك وأساس الشرك وقاعدته التي بني عليها التعلق بغير الله، ولصاحبه الذم والخذلان، كما قال تعالى: {لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً} [الإسراء:22].
أيها المؤمنون!
من مفسدات القلب: كثرة الطعام، والمفسد له من ذلك نوعان:
أحدهما: ما يُفسده لعينه وذاته كالمحرمات كالميتة والدم ولحم الخنزير، والمسروق والمغصوب ونحوها.
والثاني: ما يفسده بقدره وتعدي حدِّه كالإسراف في الحلال والشبع المفرط، فإنه يثقله عن الطاعات، ويشغله بمزاولة مؤنة البطنة حتى يظفر بها، فإذا ظفر بها شغله بمزاولة تصرفها ووقاية ضررها، وقوَّى عليه مواد الشهوة[ ] ، ووسع مجاري الشيطان، وقد قيل: " من أكل كثيراً، شرب كثيراً، فنام كثيراً، فخسر كثيراً" من مشكاة النبوة قبس يهدي.
ويقول عليه الصلاة والسلام: «ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، فحسب ابن آدم لقيماتٌ يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلاً فثلث لطعامه، وثلث لشرابه وثلث لنفسه»(رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه ).
أيها المسلم والمسلمة!
أما المفسد الرابع من مفسدات القلب: فهو كثرة النوم، فإنه كما قال العارفون يميت القلب، ويثقل البدن، ويضيع الوقت[ ] ، ويورث كثرة الغفلة[ ] والكسل، ومنه المكروه جداً، ومنه الضار غير النافع للبدن.
وأنفع النوم: ما كان من شدة الحاجة إليه، ونوم أول الليل أحمد وأنفع من آخره، ونوم وسط النهار أنفع من طرفيه، وكلما قرب النوم من الطرفين قلَّ نفعه، لا سيما نوم العصر وأول النهار إلا لسهران، ومن المكروه عندهم النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس؛ فإنه وقت غنيمة، وللسير ذلك الوقت عن السالكين مزيةٌ عظيمة، لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تطلع الشمس؛ فإنه أول النهار ومفتاحه، ووقت نزول الأرزاق، وحصول القسم، وحلول البركة، ومنه نشأ النهار.
كما قالوا، إن أعدل النوم وأنفعه نوم نصف الليل الأول، وسدسه الأخير، وهو مقدار ثمان ساعات، وذلك بعد أن تذهب فحمة العشاء، وإذا كانت كثرة النوم تورد هذه الآفات، فمدافعته وهجره تورث آفات أخرى عظام من سوء المزاج وانحراف النفس[ ] ، وجفاف الرطوبات المعينة على الفهم والعمل، وأمراض أخرى، وما قام الوجود إلا بالعدل، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
أما المفسد الخامس للقلب: فهو التمني، وسبقت الإشارة إليه.
عباد الله!
يا من روضتم أنفسكم خلال شهر الصوم على كثير من خلال الخير، إياكم أن تعفوا أثرها بعد!
ويا من خرجتم من شهر رمضان وصحائفكم بيضاء إياكم أن تسودوها فيما تستقبلون من أيام!
أجل لقد هذَّب الصيام نفوسكم، وساهم قيام الليل[ ] في إصلاح قلوبكم، فلا تفسدوها بالبطر والأشر، ولا تدنسوها بالفساد وسيء الأخلاق[ ] .
توسطوا في مطعمكم ومشربكم ومنامكم، وأديموا الصلة بكتاب ربكم، ولا يقعدن بكم الشيطان عن الصلوات المكتوبة، ويمسك بأيديكم عن النفقات الواجبة أو المستحبة!
استحضروا التوبة في كل أوان أو زمان في حياتكم، واعملوا بها بمفهومها الواسع، تركاً للمحظور، فعلاً للمأمور.
وأكثروا من الاستغفار، فمن أكثر منه جعل الله له من كل همٍّ مخرجاً، ومن كل ضيق فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب، كذلك ورد الخبر عن نبيكم صلى الله عليه وسلم.
وأتبعوا السيئة الحسنة تمحها، وقد صح عن النبي[ ] صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل الذي عمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل عليه درع ضيقة قد خنقته، فكلما عمل سنة انتقضت حلقة ثم أخرى حتى يخرج من الأرض»(رواه أحمد والطبراني).
اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك الله الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد أن تتقبل صيامنا وقيامنا وتصلح فساد قلوبنا وتحفظنا في سائر أيامنا وأحوالنا، وألا تزيغَ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وأن تفتح لنا خزائنك ما به تغنينا وتصلح أحوالنا، وأن تفيء على إخواننا المسلمين من جودك ما تفرج به همومهم، وتطعم جائعهم، وتكسي عراهم، وتفك أسراهم.