لحوم لا تأكلها الحافظة
( الغيبة )
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين...
من نعم الله العظيمة على عباده, نعمة قليلٌ ما تفكرنا بها, وكثير ما تساهلنا بها..
إنها نعمة البيان والإفصاح عما في النفس قال تعالى{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} الرحمن.
وأداة هذا البيان هو ذاك العضو الصغير في حجمه..العظيم في طاعته وجرمه..إنه اللسان..رحب الميدان فمن أرخى له العنان, يخوض به كل مجال, بلا تورع ولا حذر...سلك به الشيطان مسالك تورده المهالك فعندما سأل معاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا( وهل نحن مؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله، أجابه فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) الترمذي
ألا وإن من أخطر آفاته, الغيبة وما أدراك ما لغيبة؟؟؟
داء استشرى في اجتماعاتنا, أصبح فاكهة المجالس وزينتها, لا يستأنس المتحدث إلا به, ولا يجد لذة لحديثه إلا إذا خاض فيه...تجد الواحد منا متورعاً عن الظلم وأكل مال الحرام ولكن لسانه يلوك بأعراض إخوانه مستحلاً حرمتهم..قال ابن القيم رحمه الله: "وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يغري في الأحياء والأموات ولا يبالي ما يقول"
فحري بتلك الحافظة المباركة أن يحملها عقلها ويدفعها إيمانها إلى الاعتناء بهذه الجارحة, والحذر كل الحذر من أكل لحوم البشر...
مالذي يحذر حافظة الوحيين من الغيبة؟
يحذرها نداء الرحمن لأهل الإيمان الذي تحفظه في قلبها وتحفظ به جوارحها قال تعالى{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} الحجرات
ويحذرها حديث نبيها وقدوتها عليه الصلاة والسلام إذ قال(يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته) أبي داوود
نصوص حقٌ علينا أن نقف عند عظيم ما اشتملت عليه من زجر وتحذير...
فهيا أيتها الحافظة لننطلق متزودين من هذين النبعين الصافيين, نصلح بها قولبنا ونعالج آفات تكاد تهلكنا....
ماذا نعني بالغيبة؟
لقد بين معنى الغيبة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله(أتدرون ما الغيبة قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد إغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته) مسلم
فقد يظن البعض أنك إن ذكرت أخاك بما يكره من صفات فيه دون زيادة أو نقص ودون أن تفتري...أن ذاك ليس بغيبة وهذا خطأ مخالف لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الحسن البصري، ذِكْر الغير على ثلاثة أنواع:
1- الغيبة: وهي أنْ تقول في أخيك ما هو فيه
2- البهتان: أن تقول ما ليس فيه.
3- الإفك: أن تقول فيه ما بلغك عنه.
والغيبة قد تكون باللِّسان، وقدْ تكون بالإشارة، وقد تكون بالمُحاكاة والتقليد، بل قد تكون بالقلب وانعقاده على العَيْب وهو سوء الظن كما تحدثنا عنه في موضوع سابق..
مالذي يدفع الناس للوقوع فيها؟
هناك دوافع وأسباب عديدة تدفع الإنسان إلى الغيبة نذكر منها:
1- من أكثر الدوافع للغيبة الحسد المستوطن في القلب, فيندفع تجاه من بلغ مكانة وشأناً فيقدح فيه ويتحرى سقطاته وهفواته ويذيعها لينفر الناس منه.
2- إطفاء جمرة الغضب وحرارة الغيظ من أخيه بذكر مساوئه.
3- طلب الرفعة والاستعلاء على إخوانه والوصول إليها من خلال انتقاصهم وغيبتهم.
4- أخذها من باب التسلية والترفيه بتقليد إخوانه ومحاكاتهم فيما يكرهون لإضحاك من حوله.
5- قد يدفع بعضهم للغيبة التقرب من رئيسه في العمل أو من أشخاص يجد في الغيبة بإخوانه عندهم نفعاً وفائدة زينها له الشيطان.
6- مجاملة جلسائه وأصحابه فيخوض معهم في غيبة أخيه حتى لا يعاكس التيار ومن ثم لا يجد قبولاً له بينهم!!!
حالات تباح الغيبة فيها:
لا تباح الغيبة ولا تجوز إلا لغرض شرعي صحيح لا يمكن الوصول إليه إلا بالغيبة، من ذلك:
* التظلم, فيشكوا لمن يَظنُّ أن له قدرة على إزالة ظلمه.
* الاستفتاء، كقولك للمُفتي: ظلمني فلانٌ فكيف السبيل للحل دون التصريح بإسمه إلا إذا لزم الأمر.
* عند تغيير منكر مجاهر فيه.
* عند تحذير المسلمين ونصحهم من أصحاب الشر الذين يضرون غيرهم, كمن يشاور غيره في أمور الزواج أو المشاركة في مشروع أو المجاورة في المسكن, فيجب التوضيح له.
* التعريف بالإنسان إن كان معروفاً بلقب معين كالأعوج والأعمى، ولكن لا يحل إطلاقه على وجه التحقير والتنقيص.
ضوابط هذه الحالات:
أن هذه الأمور التي تبيح لك الغيبة ينبغي أن تضبطها بعدة أمور ضرورية...
1- الإخلاص لله تعالى في النية، فلا تتخذ هذه الحالات منفذاً للتشفي وانتقاص أخوتك.
2- الحرص على إبهام الأشخاص وعدم التصريح بهم إلا في درجات الحاجة القصوى.
3- أن تتأكد بأن هذه الغيبة ستحقق مصلحة شرعية.
أضــرار الغيبـــة:
1- تحبط الأعمال وتأكل الحسـنات.
2- أنها من الربا قال صلى الله عليه وسلم (إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق) أبي داوود
3- من لم يتب منها فهو معرض لعقوبة الله وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء(لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : الذين يأكلون لحوم الناس ، ويقعون في أعراضهم) أبي داوود
4- إن أصحابها يأكلون الجيف في النار فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال ( ليلة أسري بنبي الله صلى الله عليه وسلم نظر في النار فإذا قوم يأكلون الجيف قال : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس) أحمد
5- أنها من الأسباب الموصلة للنار والعياذ بالله فلقد ذكرت امرأةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة صلاحها وصومها ولكنها تؤذي جيرانها بلسانها فقال(هي في النار) الترغيب والترهيب
6- أنها من أشد ما يفتك بأواصر المحبة والإخاء بين المسلمين.
7- تنبت جذور الشر والفساد في المجتمع المسلم.
كيف الخلاص منها؟
1- تذكري آثارها السيئة الدنيوية والأخروية.
2- الإنشغال بعيوب النفس وإصلاحها.
3- تذكري أنها تبدد حسناتك وتذهبها سدى.
4- إلجام اللسان بالتقوى وطول الصمت قال النبي صلى الله عليه وسلم (من صمت نجا) الترمذي
5- ترطيب اللسان دوما بذكر الله وشغله بالنافع من القول, قال ابن المبارك:
وإذا هممت بالنطق بالباطل... فاجعل مكانه تسبيحا.
6- عدم مجاملة الناس في الخوض بأعراض الناس,واحرصي على الذب عنهم فقد قال صلى الله عليه وسلم(من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة) الترمذي.
فإن لم تستطيعي فلا أقل من أن تفارقي المجلس.
7- ضعي هذه الآية نصب عينيك دائماً{ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} ق
ختاماً:
لنحرص جميعاً على حفظ ألسنتنا عن إخواننا, فنحن كالجسد الواحد
ونستشعر دائماً أن ما يضر إخواني هو يضرني وما يسرهم يسرني...
لنحرص على كل كلمة نتفوه بها
من تصيب ؟؟ وهل تأتي بخير ؟؟ لو لم نتفوه بها هل نخسر شيئاً ؟؟ وماذا سينتج عنها؟؟
أسال الله بمنه وكرمه أن يجعل قلوبنا خزائن توحيده...وألسنتنا مفاتيح تمجيده...وجوارحنا خدم طاعته...