المراهقة
وهي مرحلة انتقالية بين الطفولة والرشد، وهي غير محددة، تماماً. ويمكن أن نَعُدّها العقد الثاني من العمر، إذ إنها بين الثانية عشرة والحادية والعشرين. فالبداية، عادة، بين الحادية عشرة والسادسة عشرة، لدى الذكور، ومبكرة بعض الشيء لدى الإناث (عام أو عامين) وفي السنوات الأخيرة قل متوسط العمر الذي يبدأ عنده البلوغ، ولعل السبب في ذلك. هو تحسن التغذية والرعاية الصحية وارتفاع مستويات المعيشة.
وتبدأ المراهقة، على المستوى الجسدي، بعملية البلوغ، التي هي نتاج لتغيرات هرمونية، إذ تقل حساسية المحور المكون من الهيبوثلاموس والغدة النخامية للتغذية المرتجعة المثبطة، بوساطة الاسترويدات الجنسية، بوساطة زيادة إنتاج العوامل المفرزة للهرمونات الجنسية، وما يتبعها من إفراز الهرمونات الجنسية، ثم يتبع ذلك كبر حجم الأعضاء التناسلية الخارجية، ونزول دم الحيض لدى الإناث، ويصاحبه كبر حجم الثديين وظهور شعر في منطقة العانة وتحت الإبطين وتستدير الأرداف ويصبح الجسم أنثوي التكوين؛ ولدى الذكر يكبر حجم الأعضاء التناسلية والخصيتين وكيس الصفن مع ظهور الشعر في منطقة العانة، وتحت الإبطين، ومنطقة الشارب واللحية، وعلى الجسد في مناطق متفرقة مع غلظ الصوت، وتضخم العضلات، وكبر الجسم نحو الطابع الذكري.
هذه التغيرات الجسدية السريعة، قد تحدث ارتباكاً للمراهق، فيبدو أنه لا يسيطر على أطرافه، التي أصبحت أغلظ، أو يخجل من بعض أجزاء برزت في جسده، مثل المراهقة التي تخجل من بروز نهديها. أمّا على المستوى النفسي الاجتماعي، فإن محور الاهتمام في هذه المرحلة هو "الهوية في مقابل غموض الدور" (Identity versus Role Confusion).إذ على المراهق أن يحدد هويته، ويجد له دوراً اجتماعياً وجنسياً ووظيفياً في المجتمع، الذي ينتمى إليه، فلقد أصبح عليه تحديات لا بدّ أن يواجهها، وهي:
1. أن يتحكم في طاقته الجنسية، ويجد لها مخرجاً، وكذلك عدوانه، طبقاً لتوقعات بيئته الثقافية والاجتماعية.
2. أن يرتبط بواحد من أفراد الجنس الآخر.
3. أن يحرر نفسه من الاعتماد المفرط، اجتماعياً وعاطفياً واقتصادياً، على والديه.
4. أن يختار عملاً.
5. أن ينمو لديه شعوراً ناضجاً بالهوية.
هذه التحديات يعيشها المراهق فيما يعرف بأزمة الهوية (Identity Crisis)، التي تتبلور في سؤالين أساسيين هما: من أنا؟ وماذا أريد؟.
والمراهق لا يدخل إلى مرحلة المراهقة خالي الوفاض، فهو ليس وليد اللحظة، ولكنه مرّ بمراحل النمو السابقة، واكتسب، من الخبرات والعلاقات والانفعالات، ما يعيه شعورياً، ومالا يعيه، ما يجعله يتأثر في اختياراته في هذه المرحلة، فإذا لم تتحقق له الثقة في مرحلة الأمان، فإنه سيشك في الآخر، ويتخوف من إقامة علاقة معه، وقد ينعزل لذلك. وفي اختياره للرفيقة، سيختارها كأم، تعوضه ما لم يناله من الأمان، وتفهمه دون أن يتكلم، كما يطلب الطفل الذي لم يتكلم بعد من أمه، ويكون هو محور اهتمامها، وإذا لم يتحقق له الإستقلال، فإن معاركه وعناده، في هذه المرحلة، يكثر، مؤكداً إستقلاله، خاصة بعد أن أصبح ذو جسد قوي، وصوت جهوري، ومنطق يجادل به. وإذا لم يتحقق له حل الصراع الأوديبي، وما يصاحبه من الشعور بالعجز، فإنه يكون عدائياً تجاه السلطه المفروضة عليه، في البيت أو المدرسة أو غيرهما، مع استعراضية وإغواء للجنس الآخر دون إشباع حقيقي.
ويميل إلى جذب انتباه من ترتبط بآخر، كي يكون في منافسة تشبه ما يعانيه من الموقف الأوديبي، وحين ينالها، فإنها لا تعني شيئاً بالنسبة له، فكل ما كانت تعنيه هو المنافسة وتحقيق الانتصار فقط. لذا، فهو يتركها لغيرها، ويظل مغوياً لا مشبعاً. أما إذا لم يتجاوز طموحه في إنجاز المثابرة، فإنه يظل متفانياً في عمله، كابتاً لرغباته الجنسية، لا يظهر ميلاً للجنس الآخر، ولا يختار رفيقة (أو رفيق)، فيتوقف عند المثابرة، لا يتجاوزها إلى الهوية.
وفي ضوء ما تقدم من تغيرات جسدية، وما يواجهه المراهق من تحديات في هذه المرحلة، وما اكتسبه من المراحل السابقة ومالديه من بقاياها، فإنه يتفاعل مع مجموعة الرفاق، وأفراد الجنس الآخر، وسلطة الوالدين، ومع انفعالاته هو شخصياً، إذ يدخل الأولاد إلى المراهقة بحدة ويندمجون مع مجموعة من نفس الجنس، في علاقة زمالة، والاهتمام بالجنس الآخر يؤدي إلى الاهتمام بالمظهر، من حيث اللبس والشعر ونظافة الجلد. والعلاقة بالجنس الآخر تتسم بالتمركز حول الذات، في باديء الأمر. فكل طرف يهتم بإنجازه هو، كما قد يكون الافتتان حاداً، ولكنه قصير الأمد. وفي داخل المجموعة، قد يكون الولد، في بدء المراهقة، متبجحاً استعراضياً متنافساً، يروي نكاتاً داعرة، بهدف تخفيف التوتر المرتبط بالجنس والكفاءة الجنسية. بينما تدخل المراهقة البنت مرتبطة بصديقاتها المقربات إليها، وعادة يكن أقل عدداً من مجموعة الذكور. وتجاهد البنت في الإستقلال عن أمها، والتمرد على السلطة، وتكوين صداقات مع من تثق بهن، وغالباً تقترب من أبيها. وعندما تكون مرحبة بتغيرات جسدها، تبدأ في توجيه اهتمامها الجنسي تجاه الأولاد، فتبدأ في جذب انتباههم، وقد تتنافس مع رفيقاتهـا في ذلك، وقد يكون لفت الأنظار بالتنافس في مجال التعليم أو العمل. وبالمقارنـة بالأولاد، لا يرتبط شوق البنت إلى الحب بالإحساس الجنسي قبل الرشد، والعادة السرية لديهن ليست شائعة، وربما يكون ذلك بسبب الكبت الاجتماعي للبنات، الذي لا يشجع على لمس أعضائهن التناسلية، على عكس الأولاد الذين يندر بينهم من لم يمارس العادة السرية، بسبب نقص الرغبة الجنسية المرضي، أو الكبت الشديد للغرائز.
ولكي يحصل المراهق على الاستقلال، عليه أن يحرر نفسه من الارتباط بوالديه، فيتعلم العناية بنفسـه، ويحصل على مساندة رفاقة في المجموعة، وعليه أن يتحمل مسؤولية عضويته فيها، وما تلقيه عليه من تبعات. وخلال عملية التفرد، يتأرجح المراهق بين اعتمادية الطفل، وعناد المستقل، وقد يجد الوالدان هذا محيراً كما أن طول مدة التعليم العالي وما بعده الذي يجعل المراهق معتمداً، مادياً، على والديه بعد نضجه، الجسماني والانفعالي، يكون سبباً في تأخر استقلال المراهق.
وعادة يكون المراهق متناقض المشاعر، إذ يرفض سيطرة الكبار، وهو في الوقت نفسه، يحتاج إلى إرشاد وتوجيه. ويختبر المراهق نمط السلطة، ليرى إلى أي حد يمكنه أن يذهب، فهو يحتاج إلى حدود ليشعر بالأمان، وتقلبات المزاج لديه شائعة، وأحياناً لا تستطيع قوى الضبط الداخلي أن تتكيف مع النزعات الغريزية المتزايدة. فقد يحدث السلوك الجنسي الفاضح، أو نوبات العدوان، أو الشره للأكل، ويخاف المراهق من هذا الفقد للسيطرة فيحاول أن يحصن نفسه بدفاعات، فيتبنى مواقف جمالية مبالغ فيها، أو يعقلن الأمور، فيصبح مفرط في القراءة والتفكير والمناقشة. وعادة، يسقط المراهق حدة رغباته الجنسية للخارج، ويشعر أن الآخرين خاصة الكبار لديهم الأفكار الجنسية عينها تجاهه، ويشعر أنهم يغوونه، وقد يتفاعل بالعزلة والخوف والانقباض ونقص الثقة بالنفس.
ويعيش المراهق السوي، الميول النكوصية، والمشاعر المتضاربة، كما يعيشها المراهق المضطرب، ولكن الأخير يكون مبالغاً وغير متوازن، وأهم الحيل الدفاعية، التي تكون محل التوازن أو المبالغة، ما يلي:
1. النقل: إذ تنتقل الإحتياجات الاعتمادية من الوالدين، إلى بدلائهما، مثل الأبطال أو الأقران المثاليين. ويبالغ في هذه الارتباطات الجديدة في افتتان رومانسي، أو ينقل ولائه التام إلى فلسفة أو قيادة دينية، وقد ينسلخ من سيطرة الوالدين، إلى درجة أنه قد يندمج في تفعيل متقطع في شكل هروب من البيت، أو جنوح في نشاطات مضادّة للمجتمع.
2. قلب المشاعر للضد: فالمراهق الذي لا يستطيع الانفصال، قد يعكس اعتماديته، ويحول الحب إلى عناد، والارتباطات إلى ثورة، والاحترام إلى سخرية، وأن الكبار، للأسف، لا يعون العصر، وقد يتمثل في اعتمادية عدائية متبادلة في ارتباط المراهق بوالديه.
3. الإنطواء بتوجيه الاهتمام للداخل بدلاً من الخارج: فالمشاعر التي انسلخت من الوالدين وُجِّهت للذات فزادت النرجسية، وهذا يعطي تفسيراً لانشغال المراهق، بملابسه ومظهره وجلده وملامحه وجماله وقوته، ويظهر، كذلك، في زيادة تأكيد الذات، وخيالات، القوة والجمال والمعاناة، أو البطولة، وفي نمط المبالغة المرضي، يظهر الإنشغال بالجسد، في صورة القهم العصابي
، نقص الشهية العصابي المرضي وتوهم المرض والقلق والفصام.
4. النكوص: ينكص المراهق لاهتمامات طفلية، أو لعب، أو اعتمادية على الوالدين. ونمط المرض يظهر في الفصام وفي اضطراب الشخصية الحدية.
5. الكبت، كدفاع ضد النزعات، في المراهقة: إذ يؤجل النمو بوساطة الكبت والإنكار لرغبات الجنس، ومشاعر العدوان، ومحاولة المحافظة على الصورة الحسنة، التي نشأت في المرحلة السابقة المثابرة.
6. التكوين العكسي: إذ يحاول بعض المراهقين أن يحكموا نزعاتهم بوساطة الاتجاه للزهد، وهذا النمط يتعشق، أحياناً، مع الرياضة، والنمط المبالغ فيه يظهر في حالات القهم العصابي والوسواس القهري والفصام المبكر.
7. العقلنة: إذ تندمج القدرة التصورية (القدرة على التجريد) التي نمت لدى المراهق في هذه المرحلة، فلقد أصبح أن يفهم ما يكمن خلف الألفاظ من المعاني، مع حاجة المراهق إلى كبح نزعاته، بحثاً عن المبادئ المجردة التي تنظم السلوك، ويميل المراهق إلى أن يكون غير مرن، فيطبق مبادئه التي توصل إليها. وأحياناً يعجز المراهق عن الفعل، فيصبح مشلولاً أن يتكلم بما هو غير متسق أخلاقياً من الأفكار.
8. المثالية: إذ يرى المراهق في غمرة حماسه الأخلاقي الأمور، إمّا بيضاء أو سوداء، أي يراها كمبادئ قاطعة ويجب تطبيقها من دون اعتبار للموقف، وهو، لذلك، يرى الناضج الواقعي كشخص ميئوس منه، أخلاقياً، إلى أن يتلون الأنا الأعلى لديه بمفاهيم التبادلية والنسبية فيتجه نحو الواقعية.
9. الشعور بالهوية المتفردة: إن جدلية الحياة تشير إلى أن الشيء يولد نقيضه، وينشب الصراع بينهما حتى يفصح عن إئتلاف جديد هو جماع للنقيضين، ولا يلبث هذا الجماع الجديد أن يولد نقيضه وينشب بينهما صراع جديد. لذا، فإن المراهقة تُعَدّ ثورة على الآباء، بقدر ما هي ثورة على الطفولة السابقة لها، إذ يهفو المراهق إلى هوية جديدة، بعيداً عن التوحدات الجزئية لفترات النمو السابقة، فالمراهق لن يشعر بالتكامل حتى يُخضع كل هذه التوحدات الجزئية لإحساس شامل بالتفرد، عابراً ماذا كان؟ وماذا يريد أن يكون؟ وموفقاً بين مفهومه عن نفسه، ومفهوم المجتمع، وعندما تصبح الهوية صلبة، يصبح
لمراهق قادراً واثقاً في مراهقته المتأخرة التي تؤهله للألفة في الرشد الباكر.
10. النمو المعرفي في المراهقة: يصبح المراهق قادراً على إستخدام المفاهيم المجردة فيما يسمى بمرحلة التصور القبلي (أو التفكير المنطقي). إذ يستطيع إستخدام الرموز في التفكير، وإدراك النسبة والتناسب، وبناء النتائج على مقدمات توصل إليها، والقياس المنطقي، وقبول وجهة النظر المقابلة، وفهم نظرية الإحتمالات، والتفكير الثانوي (أي التفكير في التفكير)، وهكذا تصبح المراهقة بداية صحيحة للتفكير الراشد.
11. ففي المراهقة المتأخرة يصبح المراهق قادراً على أن ينسلخ من مشاعره وأفعاله، ويدرك نتائج سلوكه أو أفكاره، وهو ما نسمية بملاحظة الذات، وهي مرتبطة بالنمو المعرفي المرتبط بالإحساس بالزمن، وما يتعلق بالمستقبل، والقدرة على افتراض مواقف متعددة، وتخيل نتائجها في عقله، وهو جزء مهم في التخطيط للمستقبل، وفي التواصل، مع الكبار، وقبول التوجيه. وهنا لم تعد أراء رفاقه هي كل الحقيقة، ولكنه يقارن رأيه بآرائهم، ويحترم الكبار، ويتخذ قراراته بعد تفكير.
12. الرؤية المتبادلة بين الأجيال: إن موقف المراهق من آراء الكبار، وكيف أنه يثور ويتمرد ويتصارع من أجل هوية متفردة، وموقف الكبار الذي ينتقد المراهقين ولا يقبل رؤيتهم، يحدث فجوة بين الأجيال، ولكن هذه الفجوة ليست حديثة العهد في هذا الجيل، أو ما سبقه، ولكن لها تاريخ طويل. ففي القرن الثامن قبل الميلاد، كتب هسيود، الشاعر الإغريقي، يقول: "أنا لا أرى أملاً في مستقبل شعبنا، إذا اعتمدوا على شباب اليوم الطائش، لأنه، بالتحديد، كل الشباب طائشون، بما لا تصفه الكلمات. فعندما كنت صبياً، تعلمنا أن نكون عاقلين، محترمين للكبار، ولكن شباب اليوم غير عقلاء، إلى حدٍّ بعيد ويضيق صدرهم بالقيود".
ونلاحظ من ذلك، أن هناك، من قديم الزمان، من لا يفهم المراهقين وينتقدهم، فيزداد عنادهم، ويشعرون بالفجوة، وبما يسمى بصراع الأجيال. وهي ليست مشكلة المراهقين، بقدر ما هي مشكلة الكبار الذين يجب عليهم الصبر والتفهم للمراهقين، فتعامل الكبار بانفعال مع المراهقين، يفقدهم التواصل معهم، وهو في الوقت نفسه، قدوة إنفعالية لهم في التعامل مع الأمور.
وهناك سؤال يجدر طرحه، والإجابة عنه في هذا المجال، وهو، هل يكثر الاضطراب بين مراهقي هذه الأيام؟
نلاحظ أن المراهقين، في المجتمع الحديث، يتعرضون للعديد من الضغوط والشدائد النفسية. وازداد، فعلاً، رصد الظواهر المرضية في مرحلة المراهقة، وربما يعزى ذلك إلى الإنتشار السريع للمعلومات بوساطة وسائل الإعلام، وتناقل الأنباء التي يُبالغ فيها، أحياناً، فتهز الشعور بالأمان، فضلاً عن دور وسائل الإعلام في تداخل الثقافات، بما يضع المراهق أمام تناقضات وتغيرات عديدة، قد تعوق اختياراته، إضافة إلى النظرة المتشائمة للمستقبل، التي لا تحمل له من الطموح ما يكفي لدفعه إلى الأمام، وإلى تجاوز الاعتمادية على والديه، خاصة ما يتعلق منها بالجوانب المادية، وارتفاع تكاليف المعيشة، وما يعانيه الشباب من أزمات المسكن والمواصلات. هذا مع ما يُطرح من آراء حول التغيرات البيئية المنتظرة لكوكب الأرض، والتي تشكك في إستقرار البشر عليها، إضافة إلى تهاوي نظريات، سياسية وإقتصادية، ظلت سائدة ردحاً من الزمن، كل هذا يزيد من حيرة المراهق، ويجعل من الاختيار أزمة، قد تؤدى إلى الاضطراب. كما أن أفلام الفيديو، وأفلام الكرتون، والإعلانات، تشجع المراهق على التعبير عن نزعاته المكبوته، الجنسية والعدوانية، فيصطدم بالمجتمع ويحدث الاضطراب.