بين ثقلة الأرض وتسامٍ في السماء يتردد المسلم بين حالات الهمة والفتور، والحماسة والخمول.. يعلم الخبير الحكيم من أمره تلك المراوحة بين أفعال الخير وغلبة الشر برغباتها؛ فيأتي التشريع الرباني واقعياً وتأتي تربية الإسلام لأبنائه على نحو لا ينكر ما يعتري النفس من إرادات لا تتفق على الدوام مع ما يرتضيه رب الأرض والسماء، وتصير كثير من كوابح الانحراف عن الجادة جاهزة للعمل حالما يغفل المرء أو يسهو عن إرادة الله سبحانه وتعالى من خلقه، البارزة في قوله تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون".
وتتعدد صور هذه الكوابح، منها ما يأتي اعتراضياً كموقف إنساني يعترض حياته فيذكره بمولاه، ومنها ما لا يتكرر في العمر إلا مرة أو بضع مرات كفريضة الحج وغيرها، ومنها ما يأتي بشكل دوري كنفحات الله الطيبة في أيام رمضان وعرفة والجمع والصلوات الخمس وما إلى ذلك. وكلما حاد المرء جاء من عبادات الله وشعائره ما يذكره بضرورة الفيء إلى رحاب الله الفسيحة والعروج إلى سماء الطاعة على مدارج العبودية، ويعلم الله سبحانه وهو اللطيف الخبير أن في خضم العبادة يحتاج العابد لتذكرة تحول بينه والغرق في أوحال المعاصي وإن كان لم يزل في حال التعبد والتنسك، فقد يأتيه عارض، شخص مثلاً يريد أن يسبه أو يشتمه أو حتى يقاتله، في تلك اللحظة بالذات يكاد الإنسان يخرج عن شعوره وينسى أنه قائم لله بعبادة يؤديها، ثغرة ينفذ منها الشيطان، وحفرة تزل فيها القدم، في أوج الكيد الشيطاني هذا يأتي كابح جماح الاسترسال في الغضب لينطلق فعلاً مزدوجاً من تربية النفس وإدارة الذات المؤمنة ومنعها في تقليد الجاهلين فتجهل كما يجهلون وهي لم تزل قائمة لله بطاعة، وفي ذات الوقت نصحاً للساب أو المقاتل ودفعاً له بسلاح التذكير بمقام الصيام.. روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين..] فيقول إني صائم.. إني صائم، هكذا يبدو الحل عند الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يسيراً كابحاً لنزوات النفس في الانتقام أو في الاسترسال في العدوان من الخصم، يقول ابن حجر في فتح الباري/باب الصيام: " فائدة قوله [إني صائم ] أنه يمكن أن يكف عنه بذلك, فإن أصر دفعه بالأخف فالأخف كالصائل, هذا فيمن يروم مقاتلته حقيقة, فإن كان المراد بقوله [قاتله] شاتمه فالمراد من الحديث أنه لا يعامله بمثل عمله, بل يقتصر على قوله إني صائم. "، والبادي من كلام العلماء ـ كما النووي في شرح المهذب والزركشي فيما نقله عنه ابن حجر ـ أن المراد انزجار الخصم بذلك وكذلك تذكير النفس، وفي التكرار فائدة بحصول يقظة للنفس سواء للنفس أو للخصم، يقول ابن حجر: "ليتأكد الانزجار منه أو ممن يخاطبه بذلك"، فإن فورة الغضب تحتاج لأكثر من طرقة للنفس، بل كذلك إلى صوت مسموع يجاوز حديث النفس رجاء أن تفيق من غفلتها فتشعر بحقيقة ما تعاينه من عبادة تسمو بالنفس، شرعها الله سبحانه بالأساس "لعلكم تتقون"، فحديث النفس يظل يسري في الأعماق يقول: إني صائم.. إني صائم، حتى إذا جاء ما يخدش هذا الصيام فزع اللسان مذكراً النفس والغير بأن هذا الصيام لم يكن ليحدث فيه ما يجرحه؛ [فرب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش]..