شاركنا في رمضان الماضي وما قبله أحبابٌ لنا واراهم الثرى، وهم الآن في عالم البرزخ يتمنون لو رُدوّا إلى الدنيا وعاشوا معنا تلك النفحات المباركة التي تتضاعف فيها الأجور؛ وما أحوجهم وأحوجنا للتعرُّض لتلك النفحات.
فهل قدّرنا هذه النعمة وهي الاصطفاء للتعرُّض لنفحات الله وإمهالنا للتزوُّد ليوم الرحيل؟
الكثير مِنَّا يستعد لاستقبال هذا الشهر العظيم بمزيدٍ من المآكل والمشارب والملابس وجداول الترفيه في ليالي رمضان.
ولم يعي معظمنا أو لم يُدقِّق في فَهم الحكمة من الصيام، وهي تحقيق التقوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
فالله غنيٌ عن عذابنا وجوعنا وعطشنا، وإنما شرع الله ذلك لمصلحة محضة للعبد في دينه وبدنه وفي سلوكه الاجتماعي وسلوكه العام. فتضييق مجاري الشيطان والتقلُّل من الطعام والشراب والجماع ليزيد التعلُّق بالله، والحرمان بعض الوقت من الملذّات للإحساس بالفقير الذي لا يجدها طوال الوقت، وتخليص البدن من الكثير من المضار التي تُخلِّفها التخمة وزيادات الجسم، وفي النهاية الكل يصب في بوتقة تحقيق التقوى والقرب من الجليل سبحانه.
وقبل أن نتمنى أن نعود لنتزوُّد من الصالحات وأن نعيش تلك الأوقات الرمضانية الغالية، قبل أن تُطوى صفحاتُ الأعمال، علينا أن نعمل ونستشعر أن رمضان هذا العام قد يكون الأخير لنا في هذه الدنيا.
كيف نستعد وكيف نقضي أوقات رمضان وكأنه الأخير؟
أولاً:
التوبة النصوح، وكل مِنَّا أدرى بنفسه وبما يقترف، فمنا من يدخل له الشيطان من مدخل المال فيُشجعه على أكل الحرام ومِنَّا من يدخل له من مدخل الشهوة فيُشجعه على الوقوع في المحرَّمات واستباحة النظر للمحرَّمات، خاصةً مع توافر أدوات المشاهدة المحرّمة والتي تتمتع بالخصوصية وسهولة استحضار الصور والمشاهد المحرَّمة التي لو تأمَّل المشاهِد حاله وتذكَّر أن الله يُشاهِده وهو يجول ببصره فيما حُرِّم لاستحى من نفسه، ومن ذلك استطالة النظر للنساء المتبرِّجات في الشوارع، وبالطبع على المرأة قبل رمضان أن تتوب إلى الله توبةً صادقة من تبرُّجها وتزيُّنها واستشراف الشيطان لها وتأثيرها السيء على شباب المسلمين، عليها أن تتذكّر أن جسدها العاري سبب للعنتها لو لم تَتُب إلى الله.
على المسلم أن يدرِّب نفسه على ترك المعاصي التي أَلِفَ إتيانها، فالسوق ستُفتَح، والثمن التقوى، والجائزة مغفرة ما غبر من آثام؛ قد تكون قفزة هائلة إلى الجنة تُبعِدُني وتُبعِدُك عن النار.
قاطع ما يتسلَّى به الناس من وسائل الفساد في نهار وليل رمضان؛ قاطع الأفلام والمسلسلات، إياك أن تظن أن الله في حاجة لتركك الطعام والشراب دون أن تُحقق التقوى.
أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».
ثانياً؛ صلاة الجماعة:
لو تأمَّل كل مِنَّا أقرب مسجد له وقارن بين عدد المصلين وعدد المساكن والأشخاص الذين يخدمهم المسجد لوجد أن معظم أهل الحي لا يُداوِمون على صلاة الجماعة؛ فأين هؤلاء من قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:36].
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "المساجد بيوت الله في الأرض، وهي تُضيء لأهل السماء كما تُضيء النجوم لأهل الأرض".
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاة الجماعة فضلها عظيم وثوابها كبير، وتزيد على صلاة المنفرد بدرجاتٍ ومن هذه الأحاديث:
ما روى عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته، وفي سوقه، خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد، لا يُخرِجه إلا الصلاة، لم يخطُ خطوة إلا رُفِعَت له بها درجة، وحُطَّ عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه، ما دام في مُصلّاه اللهم صلّ عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة» (أخرجه البخاري في صحيحه).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الجماعة تفضُل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» (أخرجه البخاري في صحيحه).
قال الإمام ابن بطال رحمه الله قوله: "«بسبع وعشرين درجة»، و«خمس وعشرين ضعفاً»، و«خمس وعشرين جزءاً»، يدل على تضعيف ثواب المصلي في جماعة على ثواب المصلي وحده بهذه الأجزاء وهذه الأوصاف المذكورة" (شرح صحيح البخاري: لابن بطال [ج2]).
وانظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُبين لنا ثواب المشي إلى صلاة الجماعة:
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم، فأبعدهم ممشى والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي، ثم ينام» (أخرجه البخاري في صحيحه).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تطهّر في بيته، ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطوتاه إحداهما تحطُّ خطيئة، والأخرى ترفع درجة» (أخرجه مسلم).
ثالثاً؛ قراءة القرآن:
بعد انتهاء آخر رمضان حذّرنا إخواننا من ترك المصاحف يعلوها التراب بعد فتحها وتلاوة القرآن منها آناء الليل وأطراف النهار؛ ينبغي أن نعبد الله طوال العام وألّا نهجر كتابه. ألا نخاف أن ندخل في هؤلاء: {قَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]؟
قال الإمام ابن كثير: "وترك علمه وحفظه أيضاً من هجرانه، وترك الإيمان به وتصديقه من هجرانه، وترك تدبُّره وتفهّمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره -من شعر أو قول أو غناء أو لهوٍ أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره- من هجرانه، فنسأل الله الكريم المنَّان القادر على ما يشاء أن يُخلِّصنا مما يُسخطه، ويَستعملنا فيما يُرضيه، من حفظ كتابه وفهمه، والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطراف النهار، على الوجه الذي يُحبُّه ويرضاه، إنه كريم وهاب" .أ هـ .
مع العلم أن قراءة جزء من القرآن تكلفك فقط 20 دقيقة في المتوسط ويقرأها الجيد في قرابة 15 دقيقة.
فهل نستكثر على الله أن نوفِّر من وقتنا يومياً 20 دقيقة، وكل مِنَّا يعلم كم يُضيّع من وقته في قيلٍ وقال وكثرة السؤال وكثرة اللغو.
لو أن أحدنا وفّر تلك الدقائق بعد كل صلاة من الصلوات المفروضة في نهار رمضان (20 دقيقة بعد كل صلاة) لختم القرآن ست مرات في هذا الشهر الكريم.
فهل تاجرنا مع الله وتركنا بعض ما نُضيّع به أوقاتنا من لغوٍ ولهوٍ ودخلنا أكبر سوق مفتوحة في العام لأعظم تجارة، وجائزتها غفران الذنوب الغابرة؟
رابعاً؛ قيام الليل:
عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل فقال: يا محمد! عِشْ ما شئت فإنك ميّت وأحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزي به واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل وعِزَّه استغناؤه عن الناس» (رواه الحاكم والبيهقي وحسنه المنذري والألباني).
قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: «ألا أدلُّك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل من جوف الليل ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ . فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16-17]» (رواه الترمذي بسندٍ صحيح).
أما الكنز الكبير فهو نزول الرحمن سبحانه نزولاً يليق بجلاله ليجيب سؤال السائلين، فهل انطرحنا بين يديه وألقينا ما في قلوبنا من هموم ومطالب؟
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربُّنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» (متفق عليه).
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال: اللهم اغفر لي أو دعا استُجيب له فإن توضأ قُبِلَت صلاته» (رواه البخاري).
وقد جعل الإسلام من شهر رمضان فرصةً عظيمة لرفع درجات القائمين فقد حض النبي صلى الله عليه وسلم أهل الإسلام على أن من تابع صلاة القيام مع إمامه حتى ينصرف كُتِبَت له قيام ليلة كاملة فما أعظمه من أجر وما أعظمها من فرصة.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حُسِبَ له قيام الليلة» (رواه أبو داود والترمذي).
وقد حرِصَ النبي صلى الله عليه وسلم على المحافظة على الوتر من صلاة الليل حتى في سفره صلى الله عليه وسلم.
وليعلم الجميع أن أقل القيام ركعة، فمن صلى ولو ركعة واحدة كان من القائمين، لذا من فاتته صلاة التراويح مع الإمام فلا يُضيّع على نفسه إدراك قيام الليلة، ولو بركعة واحدة، وما أجملها وقت السحور تتوضأ وتصلي وتتسحّر وتبتهل وتستغفر، اللهم تقبل مِنَّا أجمعين. وأجر القيام خلف الإمام لا يُشترَط فيه قيامه بجزءٍ محدّد من التلاوة. فكلٌ يجتهد فيما يُرضي ربه سبحانه وفيما يُصلِح قلبه.
خامساً؛ الاستعداد بالصوم قبل رمضان والتهيؤ له من شعبان. وذلك لما يلي:
1- ما رواه البخاري عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ".
2- ما رواه أبو داود في سننه بالسند الصحيح عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "أَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنْ السَّنَةِ شَهْرًا تَامًّا إِلَّا شَعْبَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ" (صححه الألباني).
3- أخرج أحمد في مسنده والنسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة عن أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ" قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» (واعتمده ابن القيم وحسنه الألباني).
سادساً؛ الصدقة:
ما أحوجنا إلى مدّ يدّ العون لإخواننا الفقراء، وما أجمل التكافل الاجتماعي بين المسلمين؛ خاصة في أوقات الشدة والمخمصة وقلة ذات الأيدي.
الصائم يُختَبر بترك الطعام والشراب وقتٌ مؤقت من الفجر إلى غروب الشمس؛ بينما الفقير قد ينام طاوياً بلا طعام لقلة ذات اليد؛ لذا علينا أن نتعظّ من بعض حِكَم الصيام ومواعظه وهي الشعور بالفقير والمحتاج.
كثير مِنَّا يرمي في سلة المهملات ما لو اهتم به وأعاد تغليفه بطريقةٍ آدمية نظيفة لكان صالحاً لإطعام فقير محتاج، وكلنا يعلم ما تحمِله سلال المهملات من خيراتٍ خاصة في شهر الصوم فهل سلة المهملات أغلى عندنا من فقراء المسلمين؟!
الأمر فقط يحتاج بعض النظام والانضباط وتوزيع الباقي من الطعام على المحتاجين.
فللصدقة شأن عظيم في الإسلام، فهي من أوضح الدلالات، وأصدق العلامات على صدق إيمان المتصدِّق؛ وذلك لما جُبِلَت عليه النفوس من حب المال والسعي إلى كنزه، فمن أنفق ماله وخالف ما جُبِل عليه، كان ذلك برهان إيمانه وصحّة يقينه، وفي ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والصدقة برهان» (من حديثٍ رواه مسلم)؛ أي: برهان على صحة إيمان العبد، هذا إذا نوى بها وجه الله، ولم يقصد بها رياءً ولا سمعة.
لأجل هذا؛ جاءت النصوص الكثيرة التي تُبيّن فضائل الصدقة والإنفاق في سبيل الله، وتحث المسلم على البذل والعطاء ابتغاء الأجر من الله عزَّ وجل.
فقد جعل الله الإنِفاق على السائل والمحروم من أخص صفات عباد الله المحسنين، فقال عنهم: {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ . كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ . وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ . وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:16-19]، وَوعد سبحانه -وهو الجواد الكريم الذي لا يُخلِف الميعاد- بالإخلاف على من أنفق في سبيله، فقال سبحانه: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ من الآية:39]، وَوعد بمضاعفة العطية للمُنفقين بأعظم مما أنفقوا أضعافاً كثيرة، فقال سبحانه: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة من الآية:245].
جاء في السنة عِظَمُ أجر الصدقة، ومضاعفة ثوابها، قال صلى الله عليه وسلم: «ما تصدّق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كان تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فُلُوَّه أو فصيله» (رواه مسلم).
والصدقة تطفئ الخطايا، وتكفِّر الذنوب والسيئات، قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: «والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار» (رواه الترمذي).
وهي من أعظم أسباب بركة المال، وزيادة الرزق، وإخلاف الله على صاحبها بما هو أحسن، قال الله جل وعلا في الحديث القدسي: «يا ابن آدم! أَنفقْ أُنفقْ عليك» (رواه مسلم).
كما أنها وِقاية من عذاب الله، قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا النار ولو بشقِّ تمرة» (رواه البخاري).
سابعاً؛ تَعلُّم أحكام الصيام:
حتى لا يقع المسلم فيما يُفسِد عليه عبادة الصوم؛ عليه أن يهتم بتعلُّم أحكامه، ففرض عليه أن يتعلَّم أحكام الصوم فهو مما لا يسع المسلم جهله، ومن لا يستطيع التعلُّم ففرضه سؤال أهل العلم عن أحكام الصوم، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ . بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:43-44].
جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله به طريقاً إلي الجنة» (رواه مسلم).
وجاء في حديث معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يُرِد الله به خيراً يُفقّهه في الدين» (متفق عليه)؛ أي يجعله فقيهاً في دين الله عزَّ وجل والفِقه في الدين ليس المقصود به فِقه الأحكام العملية المخصوصة عند أهل العلم بعلم الفِقه فقط ولكن المقصود به هو: عِلمُ التوحيد وأصول الدين وما يتعلّق بشريعة الله عزّ وجل ولو لم يكن من نصوص الكتاب والسنة إلا هذا الحديث في فضل العلم لكان كاملاً في الحثِّ على طلب علم الشريعة والفقه فيها.
وأخيراً؛ تصحيح النية:
علينا من الآن أن نقصُد الله وحده بالنية الصادقة في الصيام والقيام وصالح الأعمال في رمضان، وتصفيتها من شوائب الشرك الأكبر والأصغر، من رياءٍ أو عُجبٍ أو سُمعة أو كِبْر.
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه».
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): "المراد بالإيمان؛ الاعتقاد بفرضية صومه. وبالاحتساب؛ طلب الثواب من الله تعالى".
وقال الخطابي: "«احتساباً»: أي عزيمة، وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه طيبة نفسه بذلك غير مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه". اهـ.
وقال المناوي في (فيض القدير): "«من صام رمضان إيماناً»: تصديقاً بثواب الله أو أنه حق، «واحتساباً» لأمر الله به، طالِباً الأجر أو إرادة وجه الله، لا لنحو رياء، فقد يفعل المكلف الشيء معتقداً أنه صادق لكنه لا يفعله مخلصاً بل لنحو خوف أو رياء".
وقال الإمام النووي: "معنى «إيماناً»: تصديقاً بأنه حق مقتصد فضيلته، ومعنى «احتساباً»: أنه يريد الله تعالى لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص".
أسأل الله تعالى أن يوفقنا للعمل الصالح في رمضان وأن يتقبل مِنَّا أعمالنا فيه وأن يُوفقنا لصيامه وقيامه وإدراك ليلة القدر إيماناً واحتساباً.